تقدم في الحلقة السابقة بيان أن الإيمان بالأسماء والصفات داخل في الإيمان بالله عز وجل، وأن أعظم آية في القرآن هي آية الكرسي، وأن سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن، وما ذلك إلا لاشتمالهما على هذا النوع من أنواع التوحيد.
ونواصل في هذه الحلقة بيان أهمية توحيد الأسماء والصفات، فنقول وبالله التوفيق:
3 – إن معرفة أسماء الله وصفاته والعلم بها هو أشرف العلوم الشرعية على الإطلاق، وذلك لتعلقه بأشرف معلوم ألا وهو الله عز وجل، و الاشتغال به والاعتناء به اشتغال بأعلى المطالب وأزكى المقاصد؛ قال العلامة ابن القيم: “إن دعوة الرسل تدور على ثلاثة أمور:
الأصل الأول: تعريف الربِّ المدعو إليه بأسمائه وصفاته وأفعاله.
الأصل الثاني: معرفة الطريق الموصلة إليه وهي ذكره وشكره وعبادته التي تجمع كمال حبه وكمال الذل له.
الأصل الثالث: تعريفهم ما لهم بعد الوصول إليه في دار كرامته من النعيم الذي أفضله وأجله رضاه عنهم، وتجليه لهم ورؤيتهم وجهه الأعلى وسلامه عليهم وتكليمه إياهم”( 1).
ولقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم من العناية بذلك الحظ الأكبر والنصيب الأوفر إذ “عرَّف الناس ربهم ومعبودهم غايةَ ما يمكن أن تناله قواهم من المعرفة، وأبدى وأعاد، واختصر وأطنب في ذكر أسمائه وصفاته وأفعاله حتى تجلت معرفته سبحانه في قلوب عباده المؤمنين، وانجابت سحائب الشك والريب عنها كما ينجاب السحاب عن القمر ليلة إبداره، ولم يدَع لأمته حاجة في هذا التعريف لا إلى من قبله ولا إلى من بعده، بل كفاهم وشفاهم وأغناهم عن كل من تكلم في هذا الباب (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [العنكبوت: 51]”(2 ).
فحقيق بكل من أراد أن يكون له من منهجه صلى الله عليه وسلم حظ ونصيب أن يسلك مسلكه وينحى منحاه في العناية بما اعتنى به صلى الله عليه وسلم من أسماء الله الحسنى وصفاته العلى.
4- إن حاجة الناس إلى معرفة الله سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته فوق كل حاجة، هذه المعرفة المثمرة لمحبته الكاملة المفضية إلى سلوك مدارج عبوديته سبحانه وتعالى؛ بامتثال أوامره واجتناب نواهيه؛ ليحصل المرء بذلك كمال الحب لله سبحانه؛ وتمام الذل له. قال العلامة بن القيم: “ليست حاجة الأرواح قط إلى شيء أعظمَ منها إلى معرفة بارئها وفاطرها، ومحبته وذكره والابتهاج به، وطلب الوسيلة إليه، والزلفى عنده. ولا سبيل إلى هذا إلا بمعرفة أوصافه وأسمائه، فكلما كان العبد بها أعلم كان بالله أعرف، وله أطلب، وإليه أقرب. وكلما كان لها أنكر؛ كان بالله أجهل، وإليه أكره، ومنه أبعد والله تعالى يُنزل العبد من نفسه حيث يُنزله العبدُ من نفسِه.
فمن كان لذكر أسمائه وصفاته مبغضا وعنها معرضا، نافرا ومنفرا، فالله له أشد بغضا، وعنه أعظم إعراضا، وله أكبر مقتا…” ( 3).
5- وبقدر معرفة العبد بربه وبأسمائه وصفاته بقدر ما يزداد خشية من الله وخوفا منه ومراقبة له سبحانه تعالى: قال العلامة العماد ابن كثير في تفسير قوله تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) [فاطر:28]: “أي إنما يخشاه حق خشيته العلماء العارفون به، لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم العليم الموصوف بصفات الكمال المنعوت بالأسماء الحسنى كلما كانت المعرفة به أتم، والعلم به أكمل وكانت الخشية منه أعظم وأكثر”.
6- إن معرفة الله بأسمائه وصفاته هي الطريق إلى تعلق القلب بالله والأنس به وتحقيق أنواع عبودية القلب المختلفة، وذلك “باستحضار معاني الأسماء الحسنى وتحصيلها في القلوب حتى تتأثر القلوب بآثارها ومقتضياتها، وتمتلئ بأجل المعارف.
فمثلا أسماء العظمة والكبرياء والمجد والجلال والهيبة تملأ القلوب تعظيما لله وإجلالا له.
وأسماء الجمال والبر والإحسان والرحمة والجود تملأ القلب محبة لله وشوقا له وحمدا وشكرا.
وأسماء العز والحكمة والعلم والقدرة تملأ القلب خضوعا لله وخشوعا وانكسارا بين يديه.
وأسماء العلم والخبرة والإحاطة والمراقبة والمشاهدة تملأ القلب مراقبة لله في الحركات والسكنات وحراسة للخواطر عن الأفكار الردية والإرادات الفاسدة.
وأسماء الغنى واللطف تملأ القلب افتقارا واضطرارا إليه، والتفاتا إليه كل وقت، في كل حال.
فهذه المعارف التي تحصل للقلوب بسبب معرفة العبد بأسمائه وصفاته، وتعبده بها لله لا يحصل العبد في الدنيا أجل ولا أفضل ولا أكمل منها، وهي أفضل العطايا من الله لعبده، وهي رُوحُ التوحيد وَرَوْحُه.
ومن انفتح له هذا الباب انفتح له باب التوحيد الخالص، والإيمان الكامل الذي لا يحصل إلا للكمل من الموحدين” ( 4).
————————
(1) – الصواعق المرسلة:4/1489
(2) – جلاء الأفهام ص:179-180
(3) – مقدمة الكافية الشافية ص:9
(4) – القول السديد للعلامة ابن سعدي ص:1 65-166