سبق في الحلقة الماضية أن منهج أهل السنة والجماعة وأَتباعِ منهج السلف قائم على وصف الله سبحانه وتعالى بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه به نبيه صلى الله عليه وسلم في سنته، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، وأن يُنفى عنه سبحانه وتعالى ما نفاه عن نفسه وما نفاه عنه نبيه صلى الله عليه وسلم.
ثم إن باب الأسماء والصفات من أكثر الأبواب التي حصل فيها خلاف بين المسلمين فزلت فيه أقدام، وزاغت فيه عن الحق أقلام وأفهام، والمُوَفَّق في هذا الباب -كما في غيره- من اكتفى بما جاء في نصوص الوحيين واعتصم بهدي السلف الصالح.
وهكذا فإن الذين خرجوا عن الحق في هذا الباب هم ثلاثة طوائف:
• الطائفة الأولى: المشبهة، وهم قوم غلوا في إثبات الصفات إلى حد تشبيه الخالق بالمخلوقين.
قال ابن تيمية: “من يجريها على ظاهرها ويجعل ظاهرها من جنس صفات المخلوقين فهؤلاء المشبهة ومذهبهم باطل أنكره السلف وإليهم يتوجه الرد بالحق” [مجموع الفتاوى 5/113].
وقد عُرف هذا معتقد الفاسد عن كثير من الروافض منهم هشام بن الحكم ومنهم هشام بن سالم الجواليقي ومنه داود الجواربي ومن غير الروافض مقاتل بن سليمان، وقد اشتد نكير السلف على المشبهة؛ قال إسحاق بن راهويه: “من وصف الله فشبه صفاته بصفات أحد من خلق الله؛ فهو كافر بالله العظيم” [شرح أصول الاعتقاد 937].
وقال نعيم بن حماد: “من شبه الله بشيء من خلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر، فليس ما وصف الله به نفسه ورسوله تشبيه” [شرح أصول الاعتقاد 936].
ويُلحق بالمشبهة من شبه المخلوق بالخالق ومن هؤلاء السبئية وغلاة الروافض الذين شبهوا عليا رضي الله عنه بالله. ومنهم أيضا غلاة الصوفية في غلوهم في أوليائهم.
• الطائفة الثانية: المُعَطِّلة، و”هي الطائفة التي غلت في التنزيه إلى حد يقشعر عنده الجلد، ويضطرب له القلب، من تعطيل الصفات الثابتة بالكتاب والسنة ثبوتا أوضح من شمس النهار، وأظهر من فلق الصبح، وظنوا هذا من صنيعهم موافقا للحق مطابقا لما يريده الله سبحانه، فضلوا الطريق المستقيم، وأضلوا من رام سلوكها” [التحف في مذاهب السلف للشوكاني ص 40].
والمعطلة بدورهم درجات:
1- لجهمية: وينتسبون للجهم بن صفوان وهم معطلة الأسماء والصفات فلا يصفون الله بِوَصْفٍ وُصِفَ به غيره ولا يسمونه باسم سُمِّي به غيره، ظنا منهم أن ذلك يقتضي التشبيه.
قال السمعاني في الأنساب في ترجمة الجهم: “والمنكر في عقيدته كثير، وأفظعها أنه كان يزعم أن الله عز وجل لا يوصف بأنه شيء، ولا بأنه حي عالم، ولا يوصف بما يجوز إطلاق بعضه على غيره.. وفي هذا القول إبطال أكثر ما ورد به القرآن من أسماء الله تعالى، كالعليم والحي، والبصير، والسميع، ونحو ذلك..” [الأنساب 2/133]
2- المعتزلة: وهم قوم نفوا الصفات وقاولوا بأن القرآن مخلوق ونفوا رؤية المؤمنين لربهم في القيامة؛ قال السكسكي: “وقد أجمعت -أي المعتزلة- على نفي الصفات عن الله عز وجل وتعالى عن قولهم، كالعلم والقدرة والسمع والبصر..” [البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان ص 50].
3- قوم أثبتوا الأسماء وبعض الصفات ونفوا البعض الآخر.
الطائفة الثالثة: المفوضة؛ وقد زعموا أن صفات الله تعالى لا يعلم معناها إلا هو سبحانه، ومن أثبت المعنى وقع في التشبيه والتمثيل.
قال العلامة صديق حسن خان: “ومن ظن أن نصوص الصفات لا يُعقل معناها ولا يُدرى ما أراد الله تعالى ورسوله منها، وظاهرها تشبيه وتمثيل واعتقاد ظاهرها كفر وضلال، وإنما هي ألفاظ لا معاني لها وأن لها تأويلا وتوجيها لا يعلمه إلا الله وأنها بمنزلة (الم)، وظن أن هذه طريقة السلف، و[أنهم] لم يكونوا يعرفون حقيقة قوله: (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وقوله: (مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) وقوله: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) ونحو ذلك، فهذا الظّان من أجهل الناس بعقيدة السلف، وأضلهم عن الهدى، وقد تضمن هذا الظن استجهال السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وسائر الصحابة وكبار الذين كانوا أعلم الأمة علما، وأفقههم فهما، وأحسنهم عملا، وأتبعهم سننا ولازم هذا الظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتكلم بذلك ولا يعلم معناه، و[هذا]خطأ عظيم وجسارة قبيحة نعوذ بالله منها” [قطف الثمر في عقيدة أهل الأثر ص: 34-35].
قلت: ولهذا السبب كان شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم يلقبان المفوضة بـ”أهل التجهيل” لما في مذهبهم من تجهيل السلف [أنظر مجموع الفتاوى (5/34) ومختصر الصواعق (ص:128) وما بعدها].
وإن مما يُؤسف له أن هذا المذهب قد تبناه كثير من الباحثين في هذا الزمان ظنا منهم أنه مذهب السلف والله المستعان.
نقل البخاري عن بعض أهل العلم أنه قال: “الجهمية هم المشبهة، لأنهم شبهوا ربهم بالصنم والأصم والأبكم الذي لايسمع ولا يبصر ولا يتكلم ولا يبصر نفسه وقالوا إن اسم الله مخلوق”.