من الأمثلة التي يسوقها العصرانيون لتغير الأحكام بتغير الظروف: ما ثبت من تغير فقه الشافعي القديم حين كان بالعراق إلى فقهه الجديد حين انتقل إلى مصر1، وتغير فقه الشافعي من القديم إلى الجديد أمر ثابت، أما تعليل هذا التغير بتغير الظروف فيحتاج إلى نظر.
فمن المعلوم أن الشافعي قد جمع فقهه في كتبه، وهو قد ألف أكثر هذه الكتب في القديم، ثم حين أعاد تأليفها في الجديد كان يأمر بتمزيق الأولى التي حوت اجتهاداته القديمة والتي تغير رأيه فيها2، وفوق ذلك فقد روى البيهقي عنه أنه كان يقول: “لا أجعل في حل من روى عني كتابي البغدادي” وكتابه البغدادي هو المشتمل على مذهبه القديم3.
فلماذا هذا التشدد في نسخ آرائه القديمة وسعيه لإماتتها؟
لا يبدو من ذلك أن السبب في تغير اجتهاداته تغير ظروف مصر عن ظروف العراق، لأن الأمر لو كان كذلك لأجاز للناس رواية ونقل مذهبه العراقي، ولكن تشدده في نسخه وسعيه لإماتته كأنه لم يقله، دليل على أنه اكتشف أخطاء في اجتهاده القديم، لهذا أحب ألا ينقل عنه رأي خطأ، وإعادته النظر في آرائه القديمة وتغير اجتهاده فيها أمر عادي بسبب زيادة علمه وخبرته لا بسبب تغير الظروف.
يقول أشهر تلامذته وهو الإمام أحمد بن حنبل عن كتبه القديمة والجديدة التي حوت فقهه القديم والجديد: “عليك بالكتب التي وضعها بمصر، فإنه وضع هذه الكتب بالعراق ولم يحكمها، ثم رجع إلى مصر فأحكم تلك”4.
ولعل استقراء المسائل التي تغير اجتهاده فيها هي أفضل وسيلة لمعرفة ما إذا كان للظروف أثر في ذلك التغير، ولا نعلم مسألة واحدة يمكن أن يقال إن لتغير الظروف بين مصر والعراق أثرا في تغير رأيه فيها5.
وقد أكد هذا الدكتور لمين الناج في رسالته القيمة “القديم والجديد في فقه الشافعي”، وكان مما قال: “الأصول التي بنى عليها الشافعي فقهه القديم هي نفسها التي اعتمد عليها في الجديد، بل الجديد إن هو إلا امتداد للفقه القديم، يدخل في إطاره ويمشي مع أصوله -إلى أن قال-: ولقد وجد من المحدثين من ادعى أن من الأسباب الرئيسة في تغير بعض آراء الشافعي: اختلاف البيئة المصرية عن البيئة العراقية والحجازية! ومن الذين رأيتهم روّجوا لهذه المقولة: الأستاذ أحمد أمين وعبد الرحمن الشرقاوي.. -ثم رد عليهما-“6.
وقال: “فقهه في الجديد أكثر تمسكا بظواهر النصوص -ثم ذكر أمثلة على ذلك-“7.
وقال: “إن أصول القديم هي نفسها في الجديد، وليس لظاهر القديم والجديد ميزة خاصة تفصلها عن الظاهرة العامة في فقه الشافعي، ولو قدر له أن يتحول إلى غير مصر لرجع عن أقوال كثيرة أيضا”8.
وقال: “إن الفقه الجديد -للشافعي- يعتمد على أصل الاحتياط فحيث لا وجود لدليل نصي في الواقعة يحسم محل النزاع، تجد الجديد يختار الرأي الأحوط”9.
وقال: “الجديد أكثر التزاما بظواهر النصوص”10.
إذا فتغير فقه الشافعي -رحمه الله- كان سببه الاطلاع على أدلة شرعية خالفت قوله الأول، وليس كما يشيع العصرانيون الذين استقوا هذه الشبهة من شيخهم أحمد أمين أو من الماركسي الشرقاوي، من أن تغير البيئة له دور في هذا التغير. (عن كتاب شبهات عصرانية مع أجوبتها، لسليمان الخراشي)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1: انظر: “مقدمة في إحياء الشريعة” للمحمصاني، (ص:67).
2: “مناقب الشافعي” للبيهقي، (1/256) .
3: “الشافعي” لـ”أبو زهرة”، (ص 192-395).
4: “مناقب الشافعي” للبيهقي، (1/263)، “مناقب الشافعي” لابن أبي حاتم، (ص60).
5: “مفهوم تجديد الدين” للأستاذ بسطامي محمد سعيد (ص 269-270).
6: “القديم والجديد في فقه الشافعي” (1/346-347).
7: السابق (1/374).
8: السابق (1/409).
9: السابق (2/266).
10: السابق (2/277).