قال العلماء: النية من أعمال الاستغراق، فالعبد لا يكفي أن يستحضر نيته قبل العمل، بل ينبغي أن يستحضرها ويجددها أثناء العمل، ويذكر نفسه دائماً بغايته من هذا العمل، هل المحرك له هو هوى النفس، أم ابتغاء وجه الله تعالى؟
قال الحسن البصري: “رحم الله عبداً وقف عند همه، فإن كان لله مضى، وإن كان لغيره تأخر”.
واستحضار النية يحتاج إلى مجاهدة النفس لإخلاصها لله تعالى، وتخليصها مما قد يعلق بها من شوائب تكدر صفو الإخلاص، كالرياء وحظوظ النفس وبعض المصالح والمنافع الدنيوية، وغير ذلك، فالعمل بغير نية عناء، والنية بغير إخلاص رياء.
قال الغزالي رحمه الله: “إنما النية انبعاث القلب، وتجري مجرى الفتوح من الله تعالى، وليست النية داخلة تحت الاختيار، فقد تتيسر في بعض الأوقات، وقد تتعذر، وإنما تتيسر في الغالب لمن قلبه يميل إلى الدين دون الدنيا”.
فالذي يخلص نيته لله لا يزور قريبه المريض خوفاً من انتقاد الناس، وإنما طلباً للأجر والثواب من الله، قال صلى الله عليه وسلم: “إذا عاد الرجل أخاه المسلم مشى في خِرافة الجنة حتى يجلس، فإذا جلس غمرته الرحمة، فإن كان غدوة صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن كان مساءً صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح” السلسلة الصحيحة 1367، ولا ينتظر مساعدة من ساعده وسعى في قضاء حاجته، وإنما يفعل ذلك لوجه الله، فقد قال عليه الصلاة والسلام: “من يكن في حاجة أخيه، يكـن الله في حـاجته” صحيح الجـامع: 6619، وقال عليه الصلاة والسلام: “من أفضل الأعمال إدخال السرور على المؤمن، تقضي عنه دينا، تقضي له حاجة، تنفس له كربة” السلسلة الصحيحة: 2291.
ولكن عُسر تنقية القلب من هذه الشوائب أحياناً يجعل الإخلاص عزيزاً، لأن الخالص هو الذي لا باعث عليه إلا طلب القرب من الله تعالى، ولذلك قال أبو سليمان الداراني رحمه الله تعالى: “طوبى لمن صحت له خطوة واحدة لا يريد بها إلا الله تعالى”.
ولكن.. هل نحن ندرك فعلاً أهمية استحضار النية وأنها جوهر العمل، كما قال عليه وآله الصلاة والسلام: “إنما الأعمال بالنيات، وإنَّما لكل امرئٍ ما نوى..”؟ فهي صياغة شاملة لحياتنا نحن المسلمين، فلابد أن يكون لنا نيات واضحة أو حتى نيات في كل عمل نقوم به.
قال الغزالي رحمه الله: “..إن الطاعة الواحدة يمكن أن ينوي بها خيرات كثيرة، فيكون له بكل نية ثواب، إذ كل واحدة منها حسنة، ثم تُضاعف كل حسنة عشر أمثالها، مثال ذلك القعود في المسجد، فإنه طاعة، ويمكن أن ينوي بها نيات كثيرة: منها أن ينوي بدخوله انتظار الصلاة، ومنها الاعتكاف وكف الجوارح، ومنها دفع الشواغل الصارفة عن الله تعالى بالانقطاع إلى المسجد، وإلى ذكر الله تعالى فيه، ونحو ذلك. فهذا طريق تكثير النيات، فقس على ذلك سائر الطاعات، إذ ما من طاعة إلا وتحتمل نيات كثيرة”، ثم قال: “فما من شيء من المباحات إلا ويحتمل نية أونيات، تصير بها قربات، وينال بها معالي الدرجات، فما أعظم خسران من يغفل عنها ويتعاطاها تعاطي البهائم المهملة. ومثاله أن يتطيب، وينوي بالطيب اتباع السنة، واحترام المسجد، ودفع الروائح الكريهة التي تؤذي مخالطيه. ولا ينبغي أن يحتقر العبد الخطرات والخطوات واللحظات، فكل ذلك يُسأل عنه في القيامة، لم فعله؟ وما الذي قصد به؟” اهـ.
تناظر يوماً أبو موسى الأشعري ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما في قيام الليل، فقال أبو موسى: “أنا أقوم أول الليل وأنام آخره، فقال معاذ: وأنا أنام أول الليل وأقوم آخره، فأحتسب نومتي وقومتي”. وقال بعض السلف: “إني لأستحب أن يكون لي في كل شيء نية، حتى في أكلي وشربي ونومي ودخولي الخلاء، وكل ذلك مما يمكن أن يُقصد به التقرب إلى الله تعالى، لأن كل ما هو سبب لبقاء البدن وفراغ القلب من مهمات الدين، فمن قصد من الكلّ التقوِّي على العبادة، ومن النكاح تحصين دينه، وتطييب قلب أهله، والتوصل إلى ولد يعبد الله بعده، أُثيب على ذلك كله”.
إننا باستحضار نياتنا وإخلاصها لله تعالى نحفظ أوقاتنا وأعمالنا وأنفاسنا من أن تضيع سدى، ونحيا حياتنا بكل ما فيها من حركات وسكنات وخلجات في سبيل الله، قال تعالى : “قُلْ إنَّ صَلاتىِ ونُسُكىِ ومَحْياىَ ومَماتىِ للهِ رَبِّ العـٰلمينَ” الأنعام.
فلنحرص على أن يذكر بعضنا بعضا استحضار النية وإخلاصها لله عز وجل، فإن الواحد منا قد يغفل أحياناً، وإن الذكرى تنفع المؤمنين.