من معالم السلامة والنجاة عند الفتن والمحن والبلاء التأني في الإفتاء ودفع ذلك إلى العلماء الحكماء لما في الخوض من ذلك دون ترو وأهلية من عواقب وخيمة ونتائج جسيمة.
وعليه كان الصحابة يتدافعون الفتيا لأنهم على علم وقفوا وببصر نافذ كفوا، بل تدافعوا الفتيا في مسائل يسيرة، فكيف إذا جاءت المسائل الكبيرة العظيمة؟
فهل يكون من منهجهم الإسراع في الفتيا والإسراع في الكلام؟
الجواب: ليس هذا من شأنهم لأنهم كما أسلفنا على علم وقفوا وببصر نافذ كفوا كما قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى في حقهم رضي الله عنهم.
والبصر المراد به البصيرة التي قال الله جل وعلا فيها آمرا نبيه عليه الصلاة والسلام: “قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ”.
والبصيرة للقلب كالبصر للعين، ويعاوض بينهما للاستعمال.
فالصحابة رضي الله عنهم حين كفوا في زمن فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه وفي زمن الخلاف بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، وحين كفوا في الفتن لما حصل ما حصل فإنهم ببصر نافذ كفوا.. فهناك نفاذ حين كفوا، وليس الكف عجزا أو هربا، وإنما هو طلب للسلامة حين يلقى الناس ربهم جل وعلا.
إذن امتاز عصر الصحابة رضي الله عنهم بالتأني في إصدار الفتوى وتقليب أوجه النظر في النوازل والوقائع وربطها بالدليل الذي يحكمها، ولذلك كانوا يتدافعون الفتوى ويذمون من يسارع إليها، بل ما كانت تنزل النازلة إلا فزعوا فيها إلى الشورى ولم يصدروا الفتوى والحكم فيها إلا عن تبصر وحكمة. (انظر البيان والتحصيل لابن رشد، والفكر السامي للحجوي).
عن ابن وهب قال: “سمعت مالكا يقول: العجلة في الفتوى نوع من الجهل والخرق، وكان يقال التأني من الله والعجلة من الشيطان، وما عجل امرؤ فأصاب واتأد آخر فأخطأ إلا كان الذي اتأد أصوب رأيا، ولا عجل امرؤ فأخطأ واتأد آخر فأخطأ إلا كان الذي اتأد أيسر خطأ” أخرجه البيهقي في المدخل إلى السنن الكبرى.
قال أبو عثمان الحداد: “من تأنى وتثبت تهيأ له من الصواب ما لا يتهيؤ لصاحب البديهة” جامع بيان العلم.
وقال أبو حصين الأسدي: “إن أحدكم ليفتي في المسألة ولو وردت على عمر لجمع لها أهل بدر” أخرجه البيهقي في المدخل إلى السنن الكبرى.
وقال الله تعالى: “وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ”.
فهذه الآية تبين شدة خطر القول لأن هذا حلال وهذا حرام، لأن المرء لا يجزم بموافقة حكم الله جل وعلا في المسائل الاجتهادية.
وقد كان منهج السلف في هذه المسائل هو الورع الاحتياط للدين فلا يقولون هذا حلال إلا لما اتضح دليل من أدلة الشرع ولا يقولون هذا حرام إلا إذا اتضح برهانه.
وقال تعالى: “قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ، وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ”.
قال العلماء في تفسير هذه الآية: كفى بهذه الآية زاجرة زجرا بليغا عن التجوز فيما يسأل من الأحكام، وكفى بها باعثة على وجوب الاحتياط في الأحكام، أن لا يقول أحد في شيء هذا جائز، وهذا غير جائز إلا بعد إتقان وإيقان.
قال ابن القيم رحمه الله: “وكان السلف من الصحابة والتابعين يكروه التسرع في الفتوى ويود كل واحد منهم أن يكفيه إياه غيره، فإذا رأى أنها قد تعينت عليه بذل اجتهاده في معرفة حكمها من الكتاب والسنة أو قول الخلفاء الراشدين ثم أفتى” إعلام الموقعين.
ومن ثم فمن لم يوقن فليتق الله وليصمت، وإلا فهو مفتر على الله عز وجل، فقوله تعالى: “قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ” قول من شديد الوعيد وهذا يوجب الخوف من الدخول في الفتيا في كل ما يسأل عنه الناس خاصة في زمن الفتن والإحن.
قال عليه الصلاة والسلام: “من أُفْتِيَ بغير علم كان إثمه على من أفتاه، ومن أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه” صحيح الجامع.
وعن عبد الله بن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم قالا: “من أفتى الناس في كل ما يستفتونه فهو مجنون” أخرجه الدارمي وغيره.
وعن علي رضي الله عنه قال: “إذا سئلتم عما لا تعلمون فهربوا، قال وكيف الهرب يا أمير المؤمنين قال: تقولون الله أعلم” أخرجه الدارمي.