التطاول على مقام العلماء -7- د. يوسف بن محمد مازي الأسباب (تتمة)

12- «نحن» الحزبية، أو التعصب الحزبي
لقد بلغت الحزبية الجاهلية في بعض التوجهات والجماعات المعاصرة أوجها، وأثمرت من مظاهر البغي ما يقف له الشعر، ويقشعر منه الجلد، ويدمي القلب قبل العين؛ وإن تعجب فعجب من زعمهم أن مصلحة الدعوة تبيح لهم مسالك البغي والافتراء، والتجني على الأبرياء، وهتك أعراض الأنقياء، وتدنيس سمعة الأصفياء، معتقدين صحة القاعدة التلمودية الميكيافيلية المشؤومة «الغاية تبرر الوسيلة»؛ ولقد غلا بعضهم في سوء استغلال هذه المصلحة المزعومة، فسوغ لنفسه كل دروب التطاول على غيره دفاعا عن الدعوة حينا، أو زعما للسنة حينا آخر، أو ادعاء محاربة البدع والشرك..
وما أبلغ ما قاله أحمد فائز في كتابه منهج الدعوة في ظلال القرآن: «إن كلمة مصلحة الدعوة يجب أن ترفع من قاموس أصحاب الدعوات، لأنها مزلة ومدخل للشيطان، يأتيهم بها حيث يعز عليه أن يأتيهم من ناحية مصلحة الأشخاص، ولقد تتحول مصلحة الدعوة إلى صنم يتعبده أصحاب الدعوة وينسون معه منهج الدعوة الأصيل»(1).
وسبب هذا الداء الخطير ما نراه جليا من عقد الولاء على غير كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، فترى بعض الناس يربون أتباعهم على الولاء لأشخاصهم والانتماء لذواتهم أو جماعاتهم(2)، فما يكون من هؤلاء الأتباع إلا أن يوالوا في ذلك ويعادوا، دون اعتبار لمبدأ الولاء لله ورسوله وللمؤمنين، الذي يثمر الحب في الله والبغض في الله.
هذا الحب الذي من مظاهره أن يحس المسلم تجاه أخيه المسلم بمشاعر صادقة تنتج عنها آثار واضحة، ونتائج ملموسة، مثل تبادل الزيارات في الله للوقوف على حقيقة ما ينقل من نقول قد لا تكون صادقة في حق من ألصقت به، فتفند باللقاء(3).
أضف إلى ذلك البذلَ والعطاء والإيثار والمسارعة لقضاء الحاجات، والمشاركة في الأفراح والأتراح، وذكر غيره من إخوته المسلمين بالجميل، والذب عن عرضه في غيابه، وكتمان أسراره، والعفو عن زلاته غير المخرجة من الملة، خصوصا إذا لم تجاوز دائرة الاجتهاد، والدعاء له في حياته وبعد مماته، والوفاء والإخلاص له، وحفظ عهده، وترك التكلف معه..، كل ذلك مما يدخل في آداب الأخوة الإسلامية والروابط الإيمانية، فما بالنا برحم العلم؟؟ ولكن وللأسف:
قـد أسمـعـت لـو نـاديـت حيـا ***ولكن لا حيـاة لمـن تنـادي
ولو نارا نفخت فيها أضاءت ***ولكـنـك تـنـفـخ فـي رمــاد
وفي هذا يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: «ومن نصب شخصا كائنا من كان، فوالى وعادى على موافقته في القول والفعل، فهو {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} وإذا تفقه الرجل وتأدب بطريقة قوم من المؤمنين مثل أتباع الأئمة والمشايخ، فليس له أن يجعل قدوته وأصحابه هم المعيار، فيوالي من وافقهم ويعادي من خالفهم»(4).
ولقد ظهرت هذه الأيام صيحة جديدة في ثوب قديم؛ إنها الحزبية الإعلامية أو الإلكترونية، وأقصد بها ظاهرة التجمع عن طريق القنوات والمنتديات الشبكية، فقد ظهر ولاء غريب لأشخاص علماء ودعاة ومشايخ عن طريق برامج تلفزية أو عن طريق الشبكة العنكبوتية في ما يسمى بالمنتديات..
فتجاوز الحد الفكر الجماعي المباشر إلى فكر تجميعي عن بعد! ويا ليته أدى مقاصد التجميع والاجتماع على كلمة الإسلام! ولكن وللأسف مرة أخرى ظهر ولاء للـ«أنا» الحزبية، بل لقنوات فضائية أو منتديات بالشبكة العنكبوتية تمثل اتجاها معينا لتيار فكري أو إيديولوجي أو سياسي محدد..
فابتليت الأمة مرة أخرى بمعول هدم يحمل صبغة العالمية، ويشكل عليها خطرا أكثر مما يشكله الفكر التنظيمي الجماعي المحلي غير المنضبط.
يتبع..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)- [منهج الدعوة في ظلال القرآن] (1/178) لأحمد فائز.
(2)- وللشيخ فريد الأنصاري رحمه الله اصطلاح جميل في كتابه الأخطاء الستة؛ حيث يسمي هذه الظاهرة استصناما، وفعلا من عايشها يعلم دقة إطلاقه.
(3)- قال الإمام الألباني: «قال العلماء: من بركة العلم عزو كل قول إلى قائله، لأن في ذلك ترفّعاً عن التزوير».
(4)- [مجموع الفتاوي] (11/512).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *