معالم من المنهج النبوي في الدعوة ذ.محمد الدرداري أستاذ باحث في فقه المهجر

من المعالم الأساسية للمنهج الدعوي النبوي:
الصبر: قال تعالى: “إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ” (الزمر:11) وصبر الداعية هو أحد السبل المؤدية إلى نجاح الدعوة، ولقد اقتضت حكمة الله تعالى أن تكون مسارات الدعوة مفروشة بالأشواك والجماجم، لا بالزهور والرياحين.
والصبر المطلوب من الداعية؛ ويأخذ أبعادا متنوعة.

أولا: الصبر على الطاعة
بأن يوثق الداعية صلته بالله عز وجل، ويجتهد في أداء شعائره التعبدية كاملة، المفروض منها والمسنون، إذ في ذلك الزاد الذي يغذيه بالطاقة، ويجعله مقبلا على دعوته بروح إيمانية لا تخبوا ولا تفتر. قال تعالى مخاطبا رسوله: “يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا” (المزمل:1-2-3).
وروي عن أنس رضي الله عنه أنه قال حينما سئل عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم: “ما كنا نشاء من الليل أن نراه مصليا إلا رأيناه، وما كنا نشاء أن نراه نائما إلا رأيناه، وكان يصوم من الشهر حتى نقول لا يفطر شيئا”1.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام حتى تتفطر رجلاه. قالت عائشة: يا رسول الله أتصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. قال: يا عائشة، أفلا أكون عبدا شكورا”2.

ثانيا: الصبر في وجه البلايا والمحن
فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء؟ قال الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة”3.
ولقد تعرض النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام لأبشع صنوف المحن النفسية منها والبدنية، فما نال ذلك من عزيمتهم أبدا، بل كانوا القدوة والأسوة لمن جاء بعدهم.
قال ابن عباس رضي الله عنه بعد أن سئل؛ “أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟ قال: نعم والله إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالسا من شدة الضر الذي نزل به.”4.
إن تاريخ الإسلام مليء بالمواقف البطولية للأئمة والدعاة الذين اضطهدوا في سبيل الدعوة إلى الله، فأصابهم من الأذى ولاضطهاد ما لا يخطر على بال. فمن هؤلاء: السعيدان برحمة ربهما، سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، والإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان، والإمام مالك بن أنس، وأحمد بن حنبل، وسلطان العلماء العز بن عبد السلام، وشيخ الإسلام بن تيمية وغيرهم.
فعلى دعاة الإسلام اليوم وفي كل زمان، أن يسلكوا مسلك هؤلاء، ويصبروا صبرهم، وليعلموا أن هذه الدعوة ما كانت لتخترق سحب الضلال، وتكسر القيود والأغلال، لولا تلك الدماء الزكية التي فارت بها عروق الدعاة والعلماء المخلصين.

ثالثا: الصبر في وجه المساومات والإغراءات
وتلك وسيلة يلجأ إليها أعداء الدعوة في كل زمان قديما وحديثا. ولا عجب فقد جربها كفار قريش مع النبي صل الله عليه وسلم قال ابن هشام: “قالوا له -قريش- فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا فنحن نسودك علينا، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا.. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بي ما تقولون. ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل علي كتابا وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالات ربي، ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم”5.
وبرفض النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الإغراء، تفتقت عقولهم عن مكيدة أخرى، فحاولوا استدراجه إلى أنصاف الحلول، فقالوا: يا محمد هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، ونشترك في أمرنا كله. فأنزل الله تعالى: “قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ..” (الكافرون).
إن الدعوة إلى الله مهمة عظيمة، إذ هي الطريق الموصل إليه تعالى، والتعرف بها على شرعه ومنهاجه، لذا يجب على الدعاة أن يعرفوا قدر المسؤولية الملقاة على عاتقهم، ويحذروا من الوقوع في شراك أنصاف الحلول، أو الالتقاء في منتصف الطريق مع خصوم الدعوة، أو الضعف أمام إغراءات الحياة المادية.. وقد كشفت الثورات العربية أخيرا نماذج من هؤلاء الذين عز عليهم مفارقة حياة البذخ والترف في ردهات القصور، فأخرس الله لسانهم عن قول كلمة الحق، فانكشف زيف ذلك اللباس وتمزق حتى أصبحوا عراة أمام العالم.
القدوة الحسنة: وهي الشق العملي في القيام بواجب الدعوة، قال تعالى: “لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً” (الأحزاب 21). يقول ابن كثير رحمه الله: “هذه الآية أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله”6.
ولقد كانت أعماله صلى الله عليه وسلم الترجمة الحقيقية لأقواله، فلم يكن عليه السلام ظاهرة صوتية ولا أمة كلام، وإنما كان عمليا يبادر إلى الامتثال بما يأمر به، ويتجنب ما ينهى عنه.
قال ملك عمان الجلندي -بضم الجيم-: “والله لقد دلني على هذا النبي الأمي، أنه كان لا يأمر بخير إلا كان أول آخذ به، ولا ينهى عن شيء إلا كان أول تارك له، وأنه يغلب فلا يبطر، ويغلب فلا يضجر، ويفي بالعهد، وينجز الوعد، وأشهد أنه نبي.”7.
إن على الدعاة والمربين اليوم، أن يقفوا مع أنفسهم وقفة محاسبة، ويسائلوها مساءلة الغريم لغريمه، فلن تكون لمواعظهم وخطبهم ودروسهم أي فائدة، إلا إذا أدرك المدعوون أن هؤلاء هم أول الملتزمين بما يقولون، وإن اطلعوا منهم على عكس ذلك سقطوا من أعينهم وفقدوا ثقة الناس بهم، بل وازدروهم واحتقروهم.
ولقد أحسن الشاعر أبوا الأسود الدؤلي مخاطبة هؤلاء حينما قال:
يا أيها الرجل المعلم غيــــــــره هلا لنفسك كان ذا التعليــــــم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيـــــــها فإذا انتهت عنه فأنت حكيـــم
فهناك يسمـــــع ما تقول ويقتدي بالعلم منك وينفع التعليـــــــم
تصف الدواء لذي سقام بالضنى كي ما يصح به وأنت سقيـــم
لا تنه عن خلق وتأتي مثلــــــــه عــار عليك إذا فعلت عظيـم
ـــــــــــــــــــــــــ
1- مسند الإمام احمد رقم:11793
2- صحيح مسلم رقم: 2820
3-سنن الترمذي رقم:2398
4- سيرة ابن هشام 1/267.
5- سيرة ابن هشام 1/244
6- تفسير القرآن العظيم ت. محمد حسين شمس الدين ص:350
7- كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى ص:274

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *