التحلي بالإنصاف والتخلي عن الظلم والاعتساف

التحلي بالعدل زينة المرء, وهو دليل تقواه كما قال تعالى: “وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى”.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: “وهذه الآية نزلت بسبب بغضهم للكفار وهو بغض مأمور به، فإن البغض الذي أمر الله به قد نهي صاحبه أن يظلم من أبغضه, فكيف في بغض مسلم بتأويل أو شبهة أو بهوى نفس؟ فهو أحق أن لا يظلم, بل يعدل عليه” منهاج السنة 5/127.
ولذلك فلا استقامة في أمور الناس في هذه الدنيا إلا بالعدل, كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: “وأمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل..أكثر مما تستقيم مع الظلم.. ولهذا قيل إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة” الفتاوي 28/146.
ولا يتحقق العدل بين الناس إلا بالعمل بدين الله وشرعه, “فالشرع هو العدل, والعدل من الشرع, ومن حكم بالعدل فقد حكم بالشرع.. فإن هذا الشرع المنزل كله عدل ليس فيه ظلم ولا جهل” الفتاوي 35/366.
ومن أعظم العدل الذي تخلف قيامه في دنيا الناس -إلا من رحم الهه جل وعلا- تحقيق الإنصاف، وهو العدل بين المرء وغيره.
يقول ابن العربي المعافري رحمه الله: “العدل بين العبد وربه بامتثال أوامره واجتناب مناهيه.. وبين العبد وبين نفسه بمزيد من الطاعات وتوقي الشبهات والشهوات.. وبين العبد وبين غيره بالإنصاف” الفتح 10/589.
والانصاف من (أنصف) الرجل عدل, يقال: أنصفه من نفسه (وانتصف) هو منه, و(تناصف) القوم أنصف بعضهم بعضا, انظر مختار الصحاح 584.
فالدين الذي جعل الله من مقاصده إخراج الناس من جور الأديان إلى عدل الإسلام, لا بد أن يتحلى أتباعه بالعدل والإنصاف مع العدو والصديق ومع المسلم والكافر, ومع الموافق والمخالف, كل ذلك وفق دين الله وشرعه.
يقول ابن القيم رحمه الله: “والله تعالى يحب الإنصاف, بل هو أفضل حلية تحلى بها الرجال, خصوصا من نصب نفسه حكما بين الأقوال والمذاهب, وقد قال تعالى لرسوله (وأمرت لأعدل بينكم)؟ فورثة الرسول عليه الصلاة والسلام منصبهم العدل بين الطوائف, وألا يميل أحدهم مع قريبه وذوي مذهبه وطائفته ومتبوعه, بل يكون الحق مطلوبهم, يسير بسيره وينزل بنزوله, ويدين بدين العدل والإنصاف” إعلام الموقعين 3/127.
فهذا العدل الذي يطمح الفضلاء أن يعيدوه بين المسلمين, وذاك الإنصاف الذي يأمل النجباء أن يعم بين المختلفين من أهل الملة الواحدة (مع النصيحة والبيان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر), قد كان المسلمون يعاملون به أهل الذمة (مع تحقيق البراء).
يذكر أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله كتب إلى واليه على البصرة: عدي بن أرطأة يوصيه, ومما جاء في وصيته: “ثم انظر من قِبَلَكَ من أهل الذمة, قد كبرت سنه, وضعفت قوته, وولت عنه المكاسب, فأجْرِ عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه.. وذلك أنه بلغني أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه مرَّ بشيخ من أهل الذمة يسأل على أبواب الناس فقال: ما أنصفناك أن كنا أخذنا منك الجزية في شبيبتك, ثم ضيعناك في كبرك, قال: ثم أجرى عليه من بيت المال ما يصلحه”. أحكام أهل الذمة لابن القيم 1/38.
ومن المواقف السامية -كذلك- في الإنصاف مع غير المسلمين أن شيخ الإسلام رحمه الله حين سعى بإطلاق سراح أسرى المسلمين من التتار وعلم أنهم لم يطلقوا معهم أسرى أهل الذمة, أصر على إطلاق الجميع معا وقال: “بل جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا, فإنا نفكهم ولا ندع أسيرا لا من أهل الملة ولا من أهل الذمة” الرسالة القبرصية لابن تيمية.
فهذا انصاف مع أهل الذمة, فكيف لا ننصف أهل الملة؟!
فالله الله في الإنصاف فإن قلته والبعد عنه قد أفسد القلوب وأوقع في الإجحاف.
فالمنصف إن كان في ما مضى يعز وجوده, فاليوم هو أعز وأقل.
قال الإمام مالك رحمه الله في الإنصاف: “لم أجد في الناس أقل منه فأردت المداومة عليه” الديباج المذهب 1/96, وجامع بيان العلم 1/132.
وإذا أردت أن تنصف فاستمع لوصية الإمام ابن حزم رحمه الله حيث يقول: “من أراد الإنصاف فليتوهم نفسه مكان خصمه فإنه يلوح له وجه تعسفه” مداواة النفوس 80.
ويبلغ الإنصاف منتهاه حينما يتجرد المرء من عواطفه وروابطه وانتماءاته, فهذا الإمام الجهبذ المحدث علي بن المديني رحمه الله يسأل عن أبيه: أثقة هو؟ فيقول: اسألوا غيري, فيُلحُّون عليه فيقول: لا يقبل حديثه.
قال بعضهم:
ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة *** بين الأنام وإن كانوا ذي رحم
فعليك بالتحلي بالإنصاف والتخلي عن الظلم والعدوان والاعتساف.
يقول ابن تيمية رحمه الله: “وكذلك العمل, فصاحبه إما معتد ظالم, وإما سفيه عابث, وما أكثر ما يصور الشيطان ذلك بصورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, والجهاد في سبيل الله, ويكون من باب الظلم والعدوان” الفتاوي 14/482.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *