من المعلوم في الشريعة الغراء, ومن المقرر عند العلماء والفهماء أن من الخلافات الحالة بين أهل العلم نوعا لا يمكن رفعه, ولا يستطاع في كل حال دفعه لأنه راجع إلى إختلاف الأفهام, وتباين الأنظار: ذاك ما يعرف بالاختلاف الاجتهادي, أو الاختلاف السائغ المظنون.
كل ذلك رحمة من الله بهذه الأمة وتوسعة، كما قال أبو المظفر السمعاني رحمه الله في معرض كلامه عن هذا النوع من الخلاف: “وكان هذا النوع من الاختلاف رحمة من الله لهذه الأمة حيث أيدهم باليقين, ثم وسع على العلماء النظر فيما لم يجدوا حكمه في التنزيل والسنة, فكانوا مع هذا الاختلاف أهل مودة ونصح” صون المنطق 169.
إذن فلا ينبغي أن يتصور إمكانية الاتفاق في نحو هذا -مع السعي إلى تضييقه قدر الإمكان- لأن “الله تعالى حكم بحكمته أن تكون فروع هذه الأمة قابلة للأنظار, ومجالا للظنون, وقد ثبت عند النظار أن النظريات لا يمكن الاتفاق فيها عادة, فالظنيات عريقة في إمكان الاختلاف.. فلذلك لا يضر هذا الاختلاف” الاعتصام 2/168.
وعليه فلا يجوز بحال أن يجعل ذلك سببا لأن نخرم شيئا من أخوة الإيمان أو أن نجعله من موجبات الهجران, كما لا يحق تسويغ الإنكار بله التضليل, أو دعوى الخروج عن مقتضى الحق والدليل.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: “وقد كان العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم: إذا تنازعوا في الأمر اتبعوا أمر الله تعالى في قوله تعالى: “وَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً” وكانوا يتناظرون في المسألة مناظرة مشاورة ومناصحة, وربما اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية مع بقاء الألفة والعصمة والأخوة” الفتاوي 24/172.
وقال كذلك رحمه الله: ” ولو كان كلما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة”.مجموع الفتاوى: 24/172، ويقول: “فلا يكون فتنة وفرقة مع وجود الاجتهاد السائغ” الاستقامة 1/31.
وحكى الإمام الذهبي رحمه الله عن يونس بن عبد الله الأعلى الصدفي قوله: “ما رأيت أعقل من الشافعي ناظرته يوما في مسألة, ثم افترقنا ولقيني فأخذ بيدي, ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخوانا وإن لم نتفق في مسألة” السير 10/16.
قال الذهبي معلقا: “قلت هذا يدل على كمال عقل هذا الإمام, وفقه نفسه, فما زال النظراء يختلفون”.
قال بعضهم:
واختلاف الرأي لا *** يفسد للود قضية
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عمن يقلد بعض العلماء في مسائل الاجتهاد فهل ينكر عليه؟ أم يهجر؟ وكذلك من عمل بأحد القولين:
فأجاب: “الحمد لله, مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه, ولم يهجر, ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه, وإذا كان في المسألة قولان, فإن كان الإنسان يظهر له رجحان أحد القولين عمل به, وإلا قلد بعض العلماء الذين يعتمد عليهم في بيان أرجح القولين والله أعلم” الفتاوي 2/207.