فقه الحال واعتبار المآل: حال المستفتي ومآل الفتوى» إضاءة موجزة (3/3) معزوز عبد الحق أستاذ باحث في العلوم الشرعية

لشيخ المقاصد رحمه الله كلام قيم في هذا الباب، يقول فيه: النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا، كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل؛ مشروعا لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية، فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعا من إطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم مشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية، وهو مجال للمجتهد صعب المورد، إلا أنه عذب المذاق محمود الغب جار على مقاصد الشريعة»(1).
ومعنى كلام الشاطبي رحمه الله أن الفعل يكون مشروعا لما يترتب عليه من المصالح وممنوعا لما يؤدي إليه من المفاسد، وأن المجتهد إذا توصل إلى معرفة المصلحة التي من أجلها شرع الفعل فإنه يحكم بمشروعية هذا الفعل طالما كان محققا لهذه المصلحة، فإذا كان الفعل في بعض الحالات غير محصل لهذه المصلحة، أو كان مع تحصيله لها مفوتا لمصلحة أهم، أو مؤديا إلى حدوث ضرر أكبر، منع المجتهد منه.
فالشاطبي رحمه الله يبين نتيجة إهمال النظر إلى المآل من حيث إفضاء الأحكام إلى نقيض مقصودها الذي شرعت من أجله، ونقيض مقصد الشرع باطل، فما يؤدي إليه مثله(2).
إن اعتبار المآل تصويب وتوجيه للمجتهد، ومعالجة لما يفضي إليه التطبيق الآلي للنصوص على ما يندرج تحتها من وقائع جزئية لاتقاء النتائج الضررية غير المقصودة للشارع، فلا يقف الناظر عند ظاهر الأمر فيحكم بمشروعية الفعل في جميع الحالات وتحت كل الظروف حتى وإن أدى ذلك إلى حصول مفسدة أشد من المفسدة التي قصد بالمنع من الفعل درؤها، بل الواجب تفضيل أرجح المصلحتين ودفع أشد الضررين، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «إن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإنها ترجح خير الخيرين وشر الشرين، وتحصل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما»(3).
فينبغي عدم التسرع بالحكم والفتيا في النوازل والحوادث والواقعات التي تعرض للناس أفرادا أو جماعات، حتى ينظر إلى ما يؤول إليه الفعل والحكم تلافيا للمفسدة أو حسرا لها إلى أكبر قدر ممكن، وغير خاف على أحد قصة تبول الأعرابي في المسجد بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تركه عليه الصلاة والسلام مع أن الأصل المنع والنهي، ولكن منعه يؤدي إلى ضرر أكبر من تنجيسه لثوبه وحدوث داء في بدنه، كما قد يؤدي ذلك إلى تنجيس مواضع أخرى من المسجد إذا ما ولى الأعرابي فارا، ناهيك عما قد يؤول إليه رد فعل الصحابة من تنفيره عن الإسلام ولَمّا يستقر الإيمان في قلبه بعد؛ قال الشاطبي رحمه الله: «وهذا كله نظر إلى ما يؤول إليه ترتب الحكم بالنقض والإبطال من إفضائه إلى مفسدة توازي مفسدة النهي أو تزيد»(4).
إن المجتهد حين يجتهد ويحكم ويفتي عليه أن يقدر مآلات الأفعال التي هي محل حكمه وإفتائه، وأن يقدر عواقب حكمه وفتواه، وأن لا يعتبر أن مهمته تنحصر في إعطاء الحكم الشرعي، بل مهمته أن يحكم في الفعل وهو يستحضر مآله أو مآلاته، وأن يصدر الحكم وهو ناظر إلى أثره أو آثاره، فإذا لم يفعل ذلك فهو قاصر عن درجة الاجتهاد أو مقصر فيها، وهذا فرع عن كون الأحكام بمقاصدها، فعلى المجتهد الذي أقيم متكلما باسم الشرع أن يكون حريصا أمينا على بلوغ الأحكام مقاصدها، وعلى إفضاء التكاليف الشرعية إلى أحسن مآلاتها(5).
ففقه الحال واعتبار المآل يعدان بحق من اللبنات الأساسية في البناء المنهجي الذي يتأسس عليه الاجتهاد التنزيلي، إذ لا غنى للمجتهد عن اعتبارهما أثناء تنزيل الأحكام وتطبيقها على الوقائع والحوادث الجارية، كي لا تبقى الأحكام الشرعية مجردة عن مقتضيات محالها المتمثلة في النوازل وأصحابها، ولتصل بالفعل إلى تحقيق المقاصد المرجوة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)- الموافقات (4/140).
(2)- قواعد الأحكام عند الإمام الشاطبي، عبد الرحمان الكيلاني، ص. 363، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، دار الفكر، دمشق، ط. 4، 1430هـ-2009م.
(3)- مجموع الفتاوى لابن تيمية (11/20-23)، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، ط. 1، 1421هـ-2000م.
(4)- الموافقات (4/148).
(5)- نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، أحمد الريسوني، ص. 356، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، المكتبة السلفية، الدار البيضاء، ط. 1، 1411هـ-1990م.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *