التطاول على مقام العلماء -8- د. يوسف بن محمد مازي

الأسباب (تتمة)
13- تشييخ الصحف وافتقاد القدوة

إن من أعظم البلايا التي ابتلي بها المسلمون اليوم تشييخ الصحيفة؛ في مظاهر جديدة عجيبة! هذه الظاهرة التي ما خلا زمان ولا مكان إلى وبثت سمومها بين أفراد الأمة؛ إلا أن الفرق بين الأزمنة والأمكنة فيها يتمثل في كيفية تعاطي الناس لها.
فقبل كان الرجل يعكف على الأسفار والكتب، واليوم يعكف على الشبكة العنكبوتية، حتى أصبحنا نسمع اصطلاحات جديدة سخيفة؟! الشيخ غوغل نسبة إلى محرك البحث، والإجازة عن طريق الشبكة، والسند في القراءات عن بعد…؛ اصطلاحات لا تنهض أن تكون علمية بله أن تقبل عقلا أو عرفا أو واقعا…
والذي يهمنا هنا أن نعلم أن السلف كانوا يمنعون من الفتوى ومن التدريس من كانت وسيلته إلى الفقه كتبه، كما كانوا يمنعون من تلقى القرآن من المصحف من الإقراء، حتى بلغ ببعضهم أن وصف أمثال هذا النوع من الناس بألفاظ غريبة.
فهذا ابن خلكان قال في تاريخه: «المجذوب هو من لا شيخ له»(1).
وقال أبو زرعة: «لا يفتي الناس صحفي ولا يقرئهم مصحفي»(2).
وقيل: «من كان شيخه كتابه فخطؤه أكثر من صوابه».
يقول الشاعر:
مـن يـأخـذ الـعـلـم مـشـافـهـة***يكن من الزيغ والتحريف في حرم
ومن كان أخذ العلم عن كتب****فـعـلمـه عنـد أهـل العـلـم كـالـقــدم
وينبغي على هؤلاء أن يعلموا أن دور الشيخ لا يقتصر على التصحيح والتصويب العلميين فقط، كما يظن بعض الجهال بقدر المشايخ؛ بل يتعداه إلى التربية الأخلاقية والخلقية، فالطالب مطالب بالاستماع، والامتثال للشيخ في حدود الواجب شرعا، لا في معصية الله عز وجل -فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق- وعليه أيضا أن يتخذ الشيخ قدوة في السلوك والآداب.
وفي هذا يقول الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله: «اعلم أنه ينبغي للسالك شيخ مرشد مرب ليخرج الأخلاق السيئة منه بالتربية، ويجعل مكانها خلقا حسنا؛ ومعنى التربية يشبه فعل الفلاح الذي يقلع الشوك، ويخرج النباتات الأجنبية من الزرع بحسب نباته، ويكمل ريعه، ولابد للسالك من شيخ يربيه ويرشده إلى سبيل الله تعالى»(3).
وفي مثله قال الشيخ محمد عوامة حفظه الله: «وبالتلقي عن الأستاذ يحصل الطالب على خيرين: يحصل على العلم الصافي المحقق، ويحصل على الأدب مع العلماء والشيوخ، لأنه سيلتزم الأدب مع معلمه، ومنه يتعرف على قدر العلماء، وكيف يترقى في الأدب معهم، وإذا التزم الأدب مع شيوخه فهو مع شيوخهم ومن قبلهم أشد التزاما، فمنهم يرث العلم والأدب».
وما مقولة أم إمامنا مالك -العالية بنت شريك بن عبد الرحمن الأسدية- التي ينبغي أن تدون بماء الذهب في هذا الباب عنا ببعيد، قالت رحمها الله” «اذهب إلى ربيعة فتعلم أدبه قبل علمه».
فكيف يراد لمن ظن أنه بتوفره على الأشرطة والكتب واتخاذها مشايخ يتلقى منها العلم، أن يقدر ويحترم العلماء والشيوخ ويكف لسانه عن التطاول عليهم؟
فلا غرابة إذن أن نرى أمثال هؤلاء يقذفون ويشتمون ويغتابون… لأنهم ولو سلمنا لهم لقب طلب العلم! فلا فقه، ولا أخلاق، ولا سمت، ولا فهم لهم؟! كمن دخل إلى بيت فيه كل ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين فخرج بخفي حنين خالي الوفاض.
وقديما قيل: «من دخل العلم وحده خرج وحده»(4) أي من دخل في طلب العلم بلا شيخ خرج منه بلا علم، فالعلم صنعة؛ وكل صنعة تحتاج إلى صانع، فلابد إذن لتعلمها من معلمها الحاذق الذي يقف أمام متعلمه يصوب خطأه، ويقوم زلته، وينصره إذا ما ظلم غيره، ولم يوقر أكبره.
فما أشبه هذا الذي يدعي أنه عالم أو طالب علم ولم يحترم غيره من العلماء برجل يعيش في بيت يصنع المسك لكن حرمه الله حاسة الشم، أو بالذي يعيش في جنة خضراء فيها كل أصناف النبات لكن حرم حاسة البصر، فلا يعرف للذة ذوقا، ولا للسعادة إحساسا، لأنه تخلى عن أسبابها الحقيقية بتخليه عن الشيخ والاقتداء به، هذا إن كان الشيخ ـشيخا حقاـ من الشيوخ الورعين الذين ينزهون أنفسهم وألسنتهم عن الخوض فيما لا يحمد عقباه، لأن أعين طلبته معقودة عليه، فالحسن عندهم ما فعله، والقبيح عندهم ما تركه؛ أما إن كان صاحب البيت وربه بالدف يضرب فلا عجب ولا غرو عندما نجد شيم أهله الرقص.
يتبع..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)- نقله عنه في «التعالم وأثره» بكر بن عبد الله أبو زيد، ص. 67.
(2)- «الفقيه والمتفقه» (2/97).
(3)- «أيها الولد» للغزالي، ص. 128.
(4)- «الجواهر والدرر» للسخاوي (1/58).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *