السلفية وسطية أم تطرف..؟ -ج 4- حمّاد القباج

نماذج لانحرافات:
النموذج الأول: الانحراف العقلاني
يُعتبر الشيخ محمد عبده (ت.1323هـ/ 1905م) رحمه الله؛ من زعماء الإصلاح في مطلع القرن الرابع عشر الهجري.
وقد نسبه كثيرون إلى السلفية، وعدّوه من أبرز دعاتها..
تبنى في أول الأمر فكرة “الإصلاح من خلال السياسة”، ثم يئس من جدوى العمل السياسي، واستقل عن أستاذه الأفغاني الذي كان يدعو إلى “الثورة السياسية”، وأنكر على الذين يريدون خدمة الإسلام من طريق السياسة، واهتم بإصلاح التعليم، وصار يعتقد -بعد الثورة العرابية وعودته من المنفى-، أن النهضة الإسلامية لن تكون إلا بهذا الإصلاح..
قال الدكتور الوردي: “وقد بدأ الشيخ محمد عبده يسأم من الاشتغال بالسياسة ويميل إلى مثل منهج السيد أحمد خان في مهادنة الاستعمار البريطاني، والاتجاه نحو إصلاح الناس عن طريق التعليم والتهذيب”اهـ .
وقد بلغ كره محمد عبده للسياسة أوجه حين قال: “أعوذ بالله من السياسة؛ ومن لفظ السياسة، ومن معنى السياسة، ..ومن كل حرف يخطر ببالي من السياسة، ..ومن ساس ويسوس، وسائس ومسوس”اهـ .
ونسبته للسلفية إنما هو باعتبار أنه دعا إلى تحرير الفكر من التقليد، “وأن يفهم الدين على طريقة السلف قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعها الأولى” .
وقد عاصر شيوخا جمدوا على التقليد وتنكروا للدليل، وحاربوا كل جديد، ولو كان نافعا للمسلمين، وآمنوا بالخرافة والشعوذة، فانبرى للرد عليهم وتبرئة الدين من جمودهم الذي كان من أهم أسباب انحطاط الأمة؛ لكنه غلا في محاربة ذلك الواقع حتى وقع في انحراف مقابل في مسائل عقدية مهمة كما سأبينه.
وقد قال في بيان الأساس الذي ينبغي أن يقوم عليه الإصلاح: “إن الغرض الذي يرمي إليه جميعهم (أي: المصلحون)؛ إنما هو تصحيح الاعتقاد، وإزالة ما طرأ عليه من الخطأ في فهم نصوص الدين، حتى إذا سلمت العقائد من البدع، تبعتها سلامة الأعمال من الخلل والاضطراب، واستقامت أحوال الأفراد، ..وسرى الصلاح منهم إلى الأمة…” .
كما كان متأثرا في كتابه “رسالة التوحيد” بمنهج السلف؛ الذي انتقد فيه الفلسفة اليونانية وغلو المعتزلة في إعمال العقل، كما انتقد متأخري الأشاعرة، وفرّق بين طريقتهم وطريقة الإمام الأشعري التي أثنى عليها ووصفها بالوسطية والاعتدال.
ومع هذا حفظت عنه -في هذا الكتاب وغيره- كلمات وتأويلات تخالف عقيدة السلف ومنهجهم في التلقي والاستدلال..

نماذج لأخطاءه:
قال الدكتور ناصر بن عبد الكريم: “يعتبر الشيخ محمد عبده من أوائل العلماء المسلمين الذين تعرضوا في العصر الحديث لتأويل نصوص القرآن لتتفق مع النظريات الغربية؛ خاصة ما يتعلق بأمور الغيب؛ كالملائكة، والجن، والقصص، والمعجزات.
والملاحظ أنه إذا عرض لتفسير هذه الأمور يقع في تناقض واضطراب ومراوغة بين الالتزام والتأويل.. ، وكأنه يشعر برقيب من العلم الحديث، أو لعله كان يريد المصالحة والتقريب بين الذين يؤمنون بالغيب والذين لا يؤمنون، لكنه كما عبر الشيخ مصطفى صبري في كتابه (موقف العقل) : “قرب المؤمنين إلى الإلحاد خطوات، ولم يقرب الملحدين إلى الإيمان خطوة”اهـ .
وهكذا فقد حاول في تفسير بعض الآيات أن يتأولها بما يتناسب مع المعارف الغربية السائدة في العصر؛ كتفسير الطير الأبابيل بأنها جراثيم الجدري أو الحصبة يحملها نوع من الذباب أو البعوض !
وتفسير النفاثات في العقد بأنها: النمامون المقطعون لأوامر الألفة .
ولما عرض عقيدة السلف في الملائكة، ذكر بعده آراء العقلانيين من الفلاسفة ونحوهم بأن الملائكة هم نوازع الخير..، ثم انتصر لهذا الرأي وبين أنه ليس من المستبعد أن يسمي الله تعالى الأفكار والخواطر التي تدفع إلى الخير ملائكة.. ، وكذلك الشيطان يحتمل أنه هاتف الشر..
وكذلك يميل إلى تأويل قصة آدم وسجود الملائكة له وقصته مع الشيطان في الجنة بأنها من قبيل التمثيل لا الحقيقة ..
وفي بعض فتاويه، نجد محاولة لتأويل بعض أحكام الفقه تأويلا ينسجم مع واقع الحضارة الغربية؛ من ذلك:
– تجويزه إيداع الأموال في صندوق التوفير وأخذ الفائدة عليها.
– دعوته إلى منع تعدد الزوجات؛ إذ يرى أن الظروف والملابسات السائدة في المجتمع تجعل من المستحيل العدل بين النساء! ولا بد من منع التعدد إلا في حالات استثنائية يقررها القاضي .

أسباب الزلل:
يبدو أن محمد عبده كان متأثرا ببريق الطفرة العلمية المادية والتقدم التكنولوجي المتزايد في الغرب، والذي فتن كثيرا من المسلمين كغيرهم، وزعم بأن العقل البشري والبحث العلمي بديلان عن الإيمان والغيبيات..
وقد أثبت غير واحد أن الشيخ قد تأثر ببعض المستشرقين خلال إقامته في فرنسا، واستمرت صِلاته بهم بعد عودته من منفاه؛ فكان يزورهم ويراسلهم.
ومع هجوم المستشرقين على العقيدة الإسلامية، أراد الشيخ أن يثبت لهم قيمة العقل في الإسلام، لكنه غلا في ذلك..
ومن جهة أخرى؛ فقد ذُكر في ترجمته أنه كان يقرأ كتب المعتزلة ويدرسها في الأزهر، ويرجح مذهبهم!

أثره في تبلور الاتجاهات العقلانية الحديثة:
لقد تقوت الاتجاهات العقلية الحديثة بمواقف الشيخ محمد وانحرافاته؛ فاستغلته بصفته العالم والمصلح الإسلامي، وبالغت في ذلك؛ فاتخذت من تأويلاته لبعض الغيبيات قاعدة ومنطلقات لشبهاتها وتحريفاتها للنصوص..
والأخطر من ذلك أن تلاميذه المباشرين أو المتأثرين بدعوته الموصوفة ب(الإصلاحية)؛ أكثرهم من رواد الاتجاهات العقلية الحديثة، وممن لهم أدوار لا تحمد في مختلف شُعب الحياة العلمية والعملية في تاريخ الإسلام الحديث، وفي قلب حقائق الإسلام وعزله عن الحياة؛ أمثال:
قاسم أمين: في تحرير المرأة، والدعوة إلى ما يفسد الأخلاق والأسرة، خاصة دعوته إلى التبرج.
وسعد زغلول في السياسة.. ورفع شعار الوطنية الجاهلية.
ومحمد أحمد خلف الله: في طعنه في القرآن وتحريفه له، ورميه بحكاية الأساطير، في كتابيه (القرآن ومشكلات حياتنا المعاصرة)، و(الفن القصصي في القرآن) وغيرهما.
ومحمد أبو رية: في طعنه في السنة وحجيتها، وتكذيب الصحابة، والإساءة إليهم، ودعوته إلى اعتبار الكفار مسلمين في كتابه (دين الله واحد).
وعلي عبد الرازق: في نظام الحكم، والقضاء والخلافة، وفصل الدين عن الدولة.
وأحمد أمين: في جوانب كثيرة، أهمها تحريف التاريخ الإسلامي والفقه والأخلاق.
ومحمد حسين هيكل في السيرة والمعجزات (حيث أنكر بعضها)، وتابع المستشرقين بشبهاتهم باسم العلمية..
فكل واحد من هؤلاء جعل الشيخ محمد عبده رائده وقدوته ومتكأه بحق حينا، وبغير حق في أكثر الأحيان..
قلت: لعل ما تم بيانه كاف للوقوف على مدى صحة نسبة محمد عبده ومدرسته العقلانية إلى السلفية..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *