السلفية وسطية أم تطرف..؟ الحلقة السابعة حمّاد القباج

نماذج الانحرافات:
النموذج الثالث: الفتانون (ج2)

الأسباب:
1 الغلو:
وقد نهانا الله تعالى عن الغلو في الدين؛ في العقيدة والعبادة:
فقال سبحانه عن تثليث النصارى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء/171].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حصى رمي الجمار في الحج: “إياكم والغلو في الدين“.
فما بالك بالغلو في الجرح والرد على المخالف؟!
ومن مظاهر الغلو في علم الجرح والتعديل: تعلمه بطريقة تخالف منهجية الطلب عند السلف والعلماء، وادعاء التفرد بمعرفة هذا العلم ورمي المخالف بالجهل به، والتفاني في إسقاط المجروح وضعف الحرص على هدايته، والتشديد في قبول ما يرونه توبة تلزمه والتشكيك في نيته وصدقه، والتجريح بما ليس بمجرح، والتجريح فيما يسوغ فيه الخلاف، وتنزيل ما يقال في المبتدع على المتبع، ومقاطعة من يرفض الأخذ بالتجريح وتجريحه، واستعمال ألفاظ بالغة الشدة بينما يمكن تحقيق الغرض -لو كان صحيحا- بألفاظ أقرب إلى الرفق والحرص على الهداية، المبالغة في بسط ما ينبغي طيه، وإشاعة ما يحسن ستره..

2 التعصب واتباع الهوى:
وهذا كثير في هؤلاء؛ تلمسه في سلوكهم وأقوالهم بشكل كبير؛ لا سيما حين تفحم الواحد منهم  بالدليل الصريح من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومنهاج السلف؛ فيتعنت ويصر على موقفه بزعم أن عالِمَه أعلم وسيرجع إليه ليفنذ الدليل الذي يسميه شبهة!!
مع أنه ينكر الموقف نفسه حين يصدر من متعصبة المذاهب!
ومن مظاهر غلو القوم وتعصبهم: رفع الحكم بالتجريح إلى درجة القطعي الذي لا يقبل الطعن ولا النقاش، واليقين الجازم بأن كل من خالف ذلك الحكم متساهل أو مميع وربما ضال مضل، ورفع منزلة من له فضل أو تزكية عالم إلى درجة قريبة من العصمة؛ فلا يقبل الحكم عليه بخطأ أو ضلال؛ ويقول: (لقد زكاه فلان وقال فيه هو إمام الجرح والتعديل)!
وكأن هذه التزكية تجعله معصوما لا يقبل كلامه التخطئة..
فما الفرق حينئذ بين هذا وبين ما ننكره على القائلين بعصمة أئمتهم؟!
إن العالم نفسه غير معصوم من اتباع الهوى في الحكم على المخالف، وسِير العلماء فيها وقائع تدل على تحامل عالم على آخر بغير مسوغ شرعي..
والقاعدة في هذا: “كلام الأقران بعضهم في بعض يطوى ولا يروى”..
 
3 الجهل والتعالم والظلم:
وهو ما يتجلى في عوام أحبوا المنهاج السلفي وانتسبوا إليه، ثم لم يعلموا منه إلا ما يسمونه ويظنونه علم الجرح والتعديل؛ كأنه لعبة في أيديهم، مع أن المتكلم فيه له شروط وصفات لا يتصف هؤلاء بها:
قال الإمام الذهبي: “ولا سبيل إلى أن يصير العارف الذي يزكى نقلة الأخبار ويجرحهم جهبذا إلا بإدمان الطلب والفحص عن هذا الشأن وكثرة المذاكرة والسهر والتيقظ والفهم مع التقوى والدين المتين والإنصاف والتردد إلى مجالس العلماء والتحري والإتقان، وإلا تفعل:

فدع عنك الكتابة لست منها ….. ولو سودت وجهك بالمداد

قال الله عز وجل: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}؛ فإن آنست يا هذا من نفسك فهما وصدقا ودينا وورعا وإلا فلا تتعن، وإن غلب عليك الهوى والعصبية لرأي ولمذهب فبالله لا تتعب، وإن عرفت أنك مخلط مخبط مهمل لحدود الله فأرحنا منك، فبعد قليل ينكشف البهرج وينكب الزغل {ولا يحيق المكر السيئ ألا بأهله}، فقد نصحتك؛ فعلم الحديث صلف فأين علم الحديث؟ وأين أهله؟ كدت أن لا أراهم إلا في كتاب أو تحت تراب”اهـ[1].
وبعضهم يقنع نفسه بأنه على الصواب بما يسميه: الرجوع إلى أهل العلم!
وهذا الرجوع فيه أنواع من الجهل ومخالفة المنهاج السلفي؛ منها:
1- الرجوع إلى متعالم يظنه عالما، وكم رأينا من المتعالمين يرفعون عند هؤلاء إلى مصاف العلماء والمشايخ!
2- الرجوع إلى عالم معين وإقصاء آخر بالهوى والميل مع نزعات النفس.
3- الرجوع إلى عالم والتعصب له بشكل يفوق أحيانا التعصب المذهبي الذي أنكرته الدعوة السلفية، وفي هذا إبطال للقاعدة الذهبية: “كل يؤخذ من قوله ويترك..”.
4- قد يكون المرجوع إليه عالما ملما بجوانب من الدين وفقهه، لكنه لا يتقن جوانب أخرى مهمة، فلا ينبغي أن يهجم على كل ميدان، ويجعل مرجعا في كل حال، ورحم الله امرئ عرف قدر نفسه..
وكثير من الأحكام تستلزم علما واسعا وتحليا بالحكمة واعتبارا للمآلات وفقها شرعيا في وزن المصالح والمفاسد.
وليس كل ما يعلم يقال، وقد يكون من حكم الشرع السكوت عن منكر اتقاء منكر أعظم منه، أو غمر مفسدة في مصالح عظمى، ومن فقه العالم: التمييز بين حال التمكين وحال الاستضعاف.
وقد قال شيخ الإسلام: “ليس الفقيه من يعرف الحلال والحرام، ولكن الفقيه من يعرف خير الخيرين وأشر الشرين” اهـ.
وهذا فقه يفتقده كثير من أولئك الفتانين..
ومن الظلم الذي يقع فيه كثير من هؤلاء؛ أنهم يشيعون ما يرونه عيبا في عالم أو داعية ثم يتكتمون على فضائله التي هي بحر لا يمثل العيب منها إلا قطرة!
وأنا أعلم أن مقام التحذير لا يناسب ذكر الفضائل؛ لكن هذا في المنحرف، أما من الأصلُ فيه السنة والاتباع، ثم أخطأ أو زل، فذكر محاسنه يعين على رجوعه، وجحد فضائله يؤدي إلى نفوره..

4 الاختراق والتوظيف السياسي:
لا يعتري المتأمل العارف بأحوال الدعوة السلفية؛ أن بين السلفيين دخلاء انتسبوا ظاهرا إلى هذه الدعوة، من أجل العبث بها وخلق الفوضى والاضطراب بين أتباعها..
وكأني بالواحد من هؤلاء تمظهر بسمت سلفي وأعطى عن نفسه صورة المتبع الحريص على السنة الشديد على أهل البدع، ثم هو يصول ويجول لإذكاء نيران النزاعات والعداوات، وله سماعون يتحركون بلا عقول ولا تثبت، فيرقصون على غناءه الفاجر، ويقعون في فخ مكره الغادر..
وقد اتضحت معالم هذا التوجه بشكل جلي؛ مع أحداث الخليج حين برز مجموعة من الدعاة رأوا عدم مشروعية الاستعانة بالأمريكان لصد عدوان صدام، إلا أنهم وقعوا في خطأ المبالغة في تخطئة المخالف الذي يرى مشروعية تلك الاستعانة واعتبروه مداهنا، وخططوا للخروج على ولاة الأمر من العلماء والحكام..
وهكذا خرجت المسألة عن مجرد اختلاف فقهي إلى كونها طعنا في العلماء والحكام.
وقد قام العلماء بواجب النصح لأولئك الدعاة، وبينوا لهم مستندهم الشرعي بعدل وإنصاف.
إلا أنه ظهرت فئة تجاوزت الحد المشروع في ذلك البيان، وصاحبت ذلك قرائن[2] تدل على وجود يد خفية تحرك هذا التوجه..

يتبع إن شاء الله…

[1]  تذكرة الحفاظ (ج1/ ص 4)
[2]  بل هناك أدلة ليس هذا موطن ذكرها..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *