من المقرر في الشريعة أن شرط التكليف بحكم من الأحكام الشرعية: علم المكلف بطلب الشارع للفعل في الواقع.
قال الناظم:
والشرع لا يلزم قبل العلم *** دليله فعل المسيء فافهم
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عند شرحه لهذا البيت: “من شروط وجوب الشرائع أن يكون الإنسان عالما بذلك فإن لم يكن عالما فإنه لا يلزمه, والدليل على هذا فعل المسيء في صلاته فإن النبي صلى الله عليه وسلم رآه يصلي صلاة لا يطمئن فيها فقال: “ارجع فصل فإنك لم تصل”، ولكنه لم يأمره بإعادة الصلوات السابقة لأنه كان جاهلا، ولهذا قال: “والذي بعث بالحق لا أحسن غير هذا فعلمني”, فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم, وأما أمره بإعادة الصلاة الحاضرة فهذا لأن الوقت حاضر وهو مطالب بصلاة تبرأ بها ذمته، فلهذا أمره بإعادة الصلاة الحاضرة دون الصلوات الماضية” شرح القواعد الفقهية 23.
وعليه فلا يؤاخذ العبد بجهله إلا بعد بلوغه الحجة كما قال تعالى: “وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ” وقال تعالى: “وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ “.
قال ابن حزم رحمه الله: “فنص تعالى على أن النذارة لا تلزم إلا من بلغته, لا من لم تبلغه, وأنه تعالى لا يعذب أحدا حتى يأتيه رسول من عند الله عز وجل” الفصل 4/105.
وقال النووي رحمه الله مقررا ذلك: “وهذا جار على ما تقرر في الأصول لا حكم قبل ورود الشرع على الصحيح” شرح مسلم 1/369.
لكن ينبغي أن يعلم أن الجهل ليس صفة ملازمة للإنسان في كل أحواله, بل من الجهل ما يكون الإنسان هو السبب في بقائه عليه وذلك بتقصيره في محاولة إزالته بالتعلم, ولذلك كان حكم هذا الجهل مغايرا لحكم الجهل الذي يعذر به صاحبه لأسباب شرعية, أولها: مشقة الاحتراز منه, ثانيها: انتفاء تقصير المكلف في تصرفه الناشئ عن جهل يعذر به، ومن ثم فالجاهل المقصر في التعلم مع إمكانيته لذلك ليس بمعذور, وهو مؤاخذ بحسبه.
قال الناظم:
لكن إذا فرط في التعلم *** فذا محل نظر فلتعلم
وهذا النوع من الجهل هو المسمى عند أهل العلم بجهل الإعراض والصدود.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “من ترك الواجب أو فعل المحرم لا باعتقاد ولا بجهل يعذر فيه ولكن جهلا وإعراضا عن طلب العلم الواجب عليه مع تمكنه منه, أو أنه سمع إيجاب هذا وتحريم هذا ولم يلتزمه إعراضا لا كفرا بالرسالة, فهاذان نوعان يقعان كثيرا فمن ترك طلب العلم الواجب عليه حتى ترك الواجب وفعل المحرم غير عالم بوجوده وتحريمه, أو بلغه الخطاب في ذلك ولم يلتزم اتباعه تعصبا لمذهبه أو اتباعا لهواه فإن هذا ترك الاعتقاد بغير عذر شرعي” الفتاوي 22/16.
وقال السيوطي رحمه الله: “..كل من جهل تحريم شيء مما يشترك فيه غالب الناس لم يقبل إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام أو نشأ ببادية يخفى عليه مثل ذلك” الأشباه والنظائر220.
وقال ابن اللحام رحمه الله: “إذا قلنا إن الجاهل يعذر فإنما محله إذا لم يقصر ويفرط في تعلم الحكم, أما إذا قصر أو فرط لا يعذر جزما” القواعد والفوائد الأصولية 58.
وقال الإمام المقري رحمه الله: “أمر الله عز وجل العلماء أن يبينوا, ومن لم يعلم يسأل, فلا عذر في الجهل بالحكم ما أمكن التعلم” القواعد 2/412.
والخلاصة: أن الجهل الذي يمكن للمكلف دفعه باعتبار عدم مشقة الاحتراز منه عادة بأن تكون أسباب المشقة معدومة, ثم باعتبار تمكن المكلف من العلم.. فهذا الجهل لا يصلح أن يكون عذرا لصاحبه, وتترتب على المكلف الأحكام بحسب أحواله وتصرفاته..