تجليات التوحيد في حياة المسلم الموحد عبد القادر دغوتي

أولا: معنى التوحيد
نستفيد مما كتبه علماء العقيدة في باب التوحيد؛ أنه هو الإيمان الجازم بوحدانية الله تعالى في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته.
والتوحيد بهذا المعنى أقسام ثلاثة:

القسم الأول: توحيد الربوبية، وهو الإقرار بأن الله تعالى هو وحده الرب الخالق، المدبر للكون وحده، فلا أمر يُقضى دونه سبحانه.

القسم الثاني: توحيد الألوهية، وهو الإيمان الجازم بأن الله جل جلاله هو وحده الذي يستحق العبادة، فيُفرد بجميع أنواعها من دعاء ونذر وخوف ورجاء وتوكل ونحوها…

القسم الثالث: توحيد الأسماء والصفات، ويعني إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له نبيه صلى الله عليه وسلم من صفات الكمال ونعوت الجمال والجلال، ونفي ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه نبيه صلى الله عليه وسلم من صفات النقص والقصور، مصداقا لقوله تعالى: “لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ” الشورى 11.

ثانيا: تجليات التوحيد
إذا حقق العبد هذه المعاني الجليلة؛ صار من أهل التوحيد ومن أهل العقيدة الصحيحة، عقيدة الأنبياء والرسل الذين ما من أحد منهم إلا خاطب بها قومه قائلا: “اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ” الأعراف 59.
وإذا بلغ العبد مقام التوحيد؛ اصطبغت حياته كلها بصبغة العبودية الخالصة لله الواحد الأحد، وتجلت أنوار التوحيد فكشفت الغشاوة عن بصره وبصيرته، وأنارت له السبيل فسار فيه مع السائرين إلى الله وقد أيقن وجهته وقبلته، متذوقا طعم العزة والكرامة والحرية، مستشعرا الأمن والسكينة والطمأنينة.
وصفوة القول أن التوحيد الخالص لله تعالى له تجليات في حياة المسلم الموحد، تجعله مميَّزا عن كافة الناس وشامة بينهم. وفيما يلي بعض هذه التجليات:
1 – العزة والقوة
إن المؤمن الموحد إذ يعتقد أن الله جل جلاله هو وحده الخالق المدبر الرزاق المعطي المانع؛ يُكسبه هذا اليقين عزة وقوة، فلا يقوم إلا لله ولا يركع أو ينحني إلا له ولا يخضع ولا يُعلن ذلَه وافتقاره إلا له، ولا يعبد أحدا خوفا أو رجاء إلا هو سبحانه. فترى المؤمن الموحد لا ينافق أحدا ولا يتملقه لينال منه حظوة أو رفعة، وتراه عزيز النفس لا يمد يده بالسؤال لأحد وإن كان به خصاصة كما قال تعالى في شأن المؤمنين الموحدين: “تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً” البقرة 273.
فبالتوحيد يحيا المؤمن قويا عزيزا غنيا كريما وإن قلَّ ماله. فإنما الله يعزه ويرفعه ويقويه ويغنيه بالتوحيد. قال تعالى “بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً، الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً” النساء 138-139 وقال جل وعلا: “مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا” فاطر10.

2- القناعة والعفاف
فإن الموحد ينظر إلى الدنيا وما فيها من متاع وملذات، أنها ليست مقصودة لذاتها، وإنما هي وسائل يُتوسل بها إلى سعادة الآخرة؛ فلا يجعل ملذات الدنيا أكبر همه ولا مبلغ علمه، وإنما يأخذ منها بقدر ما يبلغه قصده الأسمى؛ فيحيا في دنياه حياة الطهر والنقاء والقناعة والعفاف.
أما غير الموحد فلا هم له إلا تحقيق أكبر قدر من المتع والملذات؛ إذ يرى الدنيا فرصة يجب أن تُغتنم؛ فإذا هو يلهث وراء سراب النزوات والشهوات، ملطخا بأدرانها فاقدا طهره وعفته وكرامته، كما قال تعالى “وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ” محمد12.
وقد روى الإمام مسلم في صحيحه حديثا يبين لنا بجلاء ووضوح تأثير التوحيد في تطهير النفوس من الجشع والطمع وتجميلها بجمال القناعة والقصد والعفاف، فعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضافه ضيف وهو كافر فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة، فحُلبت فشرب حلابها ثم أخرى فشربه، ثم أخرى فشربه، حتى شرب حلاب سبع شياه، ثم إنه أصبح فأسلم فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة فشرب حلابها، ثم أمر بأخرى فلم يستتمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “المؤمن يشرب في معي واحد والكافر يشرب في سبعة أمعاء “1.

3- التحلي بصفات الخير والتخلَي عن أوصاف الشر
إذا تمكن التوحيد واستقر في قلب الإنسان؛ أجلى عنه كل نوازع الشر، من غل وحقد وحسد للمؤمنين، وشماتة وسوء ظن وتمني الضر لهم، ونحوها. إذ لا يجتمع الشر مع الإيمان والتوحيد في قلب واحد، فقد قال عليه الصلاة والسلام: “إن النميمة والحقد في النار، لا يجتمعان في قلب مسلم “2، وقال: “..ولا يجتمعان في جوف مؤمن؛ غبار في سبيل الله وفيحُ جهنم، ولا يجتمعان في قلب عبد؛ الإيمان والحسد”3؛ فإن قلب الموحد قلب مخموم، أي تقي نقي.
فعن عبد الله بن عمرو: “قيل يا رسول الله، أي الناس أفضل؟ قال: كل مخموم القلب صدوق اللسان. قيل: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: هو التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي ولا حسد”4.
ولا يكتفي التوحيد بتخلية قلب العبد الموحد من الشر؛ بل يحليه بعد ذلك بالخير، فيملؤه رحمة وحلما وصبرا وعطفا ورفقا وتواضعا…
إنها عملية تخلية وتحلية، وهي عملية علاجية إحيائية عظيمة يجريها التوحيد للقلب، كما يجري الطبيب الماهر الحاذق عملية لاستئصال الورم الخبيث، وإمداد الجسد بالدواء اللازم ليصح ويقوى.
إن التوحيد دواء وشفاء للقلوب العليلة كما قال الحق جل جلاله: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ” يونس57.
وإنما يعتبر الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم أطهر وأنقى وأرقى الناس قلبا؛ لأنه أكملهم وأتمهم توحيدا.

4- التفاؤل والأمل
إن الشيطان اللعين في سجاله مع ابن آدم يسعى إلى تكبيل الإنسان بقيود اليأس والقنط، ويمنعه من الانطلاق لإعتاق نفسه وتحريرها وإصلاح شأنها.
لكن العبد الموحد يُملَكه التوحيد مفاتيح التفاؤل والأمل؛ فلا يجد اليأس ولا القنط إلى قلبه سبيلا. فكلما كان العبد أتمَ وأصح توحيدا كان أكثر الناس أملا في الله تعالى، لذلك نجد الأنبياء والرسل أكثر العباد أملا وتفاؤلا ورجاء في الله تعالى إذا نزلت بهم الشدائد والمحن وأنواع البلاء.
أما اليأس فلا يتمكن إلا من قلوب الضالين المذبذبين التي ضلت نور التوحيد فلا تزال تتخبط في الظلمات؛ قال تعالى: “قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ” الحجر56، وقال سبحانه: “إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ” يوسف87.

5- الطمأنينة والسكينة
وهما أجمل ما يثمره التوحيد في قلب المؤمن الموحد؛ إذ يجعله آمنا إذا خاف الناس، راضيا إذا سخطوا، مستبشرا إذا قنطوا، مطمئنا إذا قلقوا واضطربوا.
ذلكم أن المؤمن الموحد يحصل عنده اليقين التام في أنه لا ولن يصيبه إلا ما كتب الله له، جزاء وفاقا لقوله تعالى: “قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ” التوبة 51.
وأن المؤمن الموحد متيقن أن ما يجري عليه من أحوال الدنيا المختلفة والمتقلبة؛ إنما هي قضاء قضاه الله في الأزل، وأن ما قضى الله به كله خير للمؤمن الموحد، كما قال سيد الموحدين عليه الصلاة والسلام:” عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له”5.

خاتمة
التوحيد حياة للأرواح، وشفاء لما في الصدور، وتقويم للأفكار والعقول، واستقامة للجوارح.
التوحيد طمأنينة في الدنيا وسعادة في الآخرة.
فالله نسأل أن يبلغنا كمال التوحيد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- صحيح مسلم، رقم الحديث 2063.
2- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، للهيثمي؛ رقم الحديث 377.
3- سنن النسائي، رقم الحديث3109.
4- سنن ابن ماجة، رقم الحديث 4214.
5- صحيح مسلم، رقم الحديث 2999.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *