مَرَّ معنا أنه من علامات التعظيم والمحبة لصحابة النبي صلى الله عليه وسلم: سلامة القلوب والألسن لهم، ومع باقي العلامات الأخرى:
الاستغفار لهم:
اقتتال المسلمين لا يذهب بأصل الإيمان، ولا ينزع عنهم العدالة، وأما في حق الصحابة فإن قوة إيمانهم وصحة مقاصدهم تنفي عنهم كل تهمة، لذلك يتعين عدم النظر إليهم بعين الهوى لأنها عمياء مُردية، بل إن الله تعالى في كتابه أمر بالاستغفار لهم جميعا وقد علم ما سيحصل بينهم، قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: “لا تسبوا أصحاب محمد فإن الله قد أمر بالاستغفار لهم، وقد علم أنهم سيقتتلون” الصارم المسلول 574 ورواه أحمد في الفضائل وصحح إسناده ابن تيمية في منهاج السنة 2/22.
وقال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: “الناس على ثلاث منازل، فمضت منزلتان وبقيت واحدة فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت. قال: ثم قرأ(للفقراء المهاجرين) إلى قوله: (رضوانا) فهؤلاء المهاجرون. وهذه منزلة قد مضت (والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم) إلى قوله: ( ولو كان بهم خصاصة) قال: هؤلاء الأنصار ثم قرأ: (وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) قد مضت هاتان وبقيت هذه المنزلة، فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت. يقول: أن تستغفروا لهم” رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي، وانظر الصارم المسلول 574.
وقالت عائشة رضي الله عنها: “أمروا أن يستغفروا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبوهم” رواه مسلم. قال أبو نعيم رحمه الله: “فمن أسوأ حالا ممن خالف الله ورسوله وآب بالعصيان لهما والمخالفة عليهما. ألا ترى أن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يعفو عن أصحابه ويستغفر لهم ويخفض لهم الجناح قال تعالى: “وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ” وقال: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ)” الإمامة 375-376.
الإمساك عما شجر بينهم:
قال صلى الله عليه وسلم: “إذا ذكر أصحابي فأمسكوا…” السلسلة الصحيحة. فالواجب على المسلم فيما شجر بين الصحابة رضوان الله عليهم الإمساك عن ذلك، والكف عن ذكره واعتقاد أنما شجر بينهم غير قادح في عدالتهم فالله قد عدلهم وهو أعلم بما يقع منهم. قال ابن بطة رحمه الله: “نكف عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد شهدوا المشاهد معه وسبقوا الناس بالفضل فقد غفر الله لهم وأمرك بالاستغفار لهم والتقرب إليه بمحبتهم وفرض ذلك على لسان نبيه وهو يعلم ما سيكون منهم” الشرح والإبانة 268-289. ومن ثم فالإمساك المشار إليه في الحديث إمساك مخصوص يقصد به عدم الخوض فيما وقع بينهم من الحروب والخلافات على سبيل التوسع وتتبع التفصيلات ونشر ذلك بين العامة، أو التعرض لهم بالتنقص لفئة والانتصار لأخرى.
التماس أحسن المخارج فيما ثبت عنهم وظاهره القدح:
إذا دعت الحاجة إلى ذكر ما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم فلا بد من التحقق والتثبت فيما ينقل من ذلك فإذا صحت الرواية في ميزان الصناعة الحديثية وكان ظاهر القدح فيلتمس لهم أحسن المخارج والمعاذير، لأننا تيقنا فضلهم وعدالتهم، مع التنبيه أننا لا نعتقد في أفرادهم العصمة إلا في مجموعهم. قال الذهبي رحمه الله: “فالقوم لهم سوابق -في الخير- وأعمال مكفرة -للذنوب- لما وقع بينهم، وجهاد محاء، وعبادة ممحصة ولسنا ممن يغلوا في أحد منهم ولا ندعي فيهم العصمة” السير 10/93.
وقال ابن أبي زيد القيرواني رحمه الله في معرض الحديث عن معتقد أهل السنة في الصحابة: “والإمساك عما شجر بينهم وأنهم أحق الناس أن يلتمس لهم أحسن المخارج ويظن بهم أحس المذاهب” مقدمة الرسالة 8، وانظر الشفا 2/43. ولا يلتفت إلى هراء العلمانيين ودعوتهم إلى نقد التاريخ بدعوى رفع القداسة عن الأشخاص، وذلك مكرا منهم حتى تزدري الأجيال قدرهم فتسقط القدوة بهم من نفوس أبناء المسلمين فيتنكبوا سنتهم التي أمرنا بالتمسك بها.
وقال ابن دقيق رحمه الله: وما نقل عنهم فيما شجر بينهم واختلفوا فيه فمنه ما هو باطل وكذب فلا يلتفت إليه وما كان صحيحا أولناه تأويلا حسنا لأن الثناء عليهم من الله سابق وما ذكر من الكلام اللاحق محتمل للتأويل، والمشكوك والموهوم لا يُبْطل المحقق والمعلوم” نقلا عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومذاهب الناس فيهم للعجلان 360.
إتباع منهجهم وطريقتهم:
لقد أمرنا الله تبارك وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بإتباع طريقة الصحابة وسنتهم. قال تعالى: ” وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ”.
قال ابن القيم رحمه الله تحت فصل: الأدلة على أن إتباع الصحابة واجب: ” فأما الأول من الوجوه أحدها: ما احتج به مالك وهو قوله تعالى (ثم ذكر الآية) وقال: فوجه الدلالة أن الله تعالى أثنى على من اتبعهم فإذا قالوا قولا فاتبعهم متبع عليه قبل أن يعرف صحته فهو متبع لهم فيجب أن يكون محمودا على ذلك وأن يستحق الرضوان” إعلام الموقعين 4/123-124. وقال تعالى: “وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً”. قال بن أبي جمرة الأندلسي رحمه الله: “وقد قال العلماء في معنى قوله تعالى “وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ”: إن المراد بذلك الصحابة والصدر الأول لأنهم هم الذين تلقوا مواجهة الخطاب…” بهجة النفوس.
وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: “…فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ…”. قال المباركفوري رحمه الله: “ليس المراد بسنة الخلفاء الراشدين إلا طريقتهم الموافق لطريقته صلى الله عليه وسلم” تحفة الأحوذي 3/50.
وقال إبراهيم النخعي رحمه الله بلغني عنهم (أي الصحابة) أنهم لم يتجاوزوا بالوضوء ظفرا ما جاوزته به، وكفى على قوم وزرا أن تخالف أعمالهم أعمال أصحاب نبيهم صلى الله عليه وسلم” إعلام الموقعين 4/151. وختاما: قال العلامة السفاريني رحمه الله: “ولا يرتاب أحد من ذوي الألباب أن الصحابة الكرام هم الذين حازوا قصبات السبق واستولوا على معالي الأمور من الفضل والمعروف والصدق والأمانة وغير ذلك، والسعيد من اتبع صراطهم المستقيم واقتفى منهجهم القويم، والتعيس من عدل عن طريقهم” لوامع الأنوار 2/381 بتصرف.