من مميزات منهج السلف عدم معارضة نصوص الوحي بالآراء نور الدين درواش

لما كان منهج أهل السنة وأتباع منهج السلف قائما على التسليم التام لنصوص الوحي قرآناً وسنةَ، كان ذلك مقتضيا عدم معارضتها برأي ولا بقولٍ، أياً كان قائله.

فإن تقديم الآراء على النصوص يعتبر من التَّقَدُّم بين يدي الله ورسوله الذَين نهى الله عنهما في قوله: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ” الحجرات1
قال الإمام القرطبي: “أي لا تقدموا قولا ولا فعلا بين يدي الله وقول رسوله وفعله فيما سبيله أن تأخذوه عنه من أمر الدين والدنيا. ومن قَدَّم قوله أو فعله على الرسول صلى الله عليه وسلم فقد قدمه على الله تعالى، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يأمر عن أمر الله عز وجل”.
وقال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ” الحجرات 2
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: “فإذا كان رفع أصواتهم فوق صوته سببا لِحُبُوط أعمالهم، فكيف تقديم آرائهم وعقولهم وأذواقهم وسياستهم ومعارفهم على ما جاء به ورفعها عليه؟! أليس هذا أولى أن يكون محبطا لأعمالهم” إعلام الموقعين.
قال عمر بن الخطاب: أصحاب الرأي أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها وتَفَلَّتَتْ منهم أن يعوها، واستحيوا حين سُئِلوا أن يقولوا: لا نعلم، فعارضوا السنن برأيهم، فإياكم وإياهم” إعلام الموقعين
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله لا ينزع العلم بعد أن أعطاكموه انتزاعا، ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم، فيبقى ناس جهال، يستفتون فيفتون برأيهم، فيضلون ويضلون” رواه البخاري.
فإذا كان الشرع قد حرم مجرد الرُكُون إلى الرأي وهجران الشرع ولو مع عدم العلم به، واعتبر ذلك سبيلا للضلال والإضلال، فكيف بحال من تثبت عنده النصوص صحة وتتضح دلالة ومع ذلك يصر على معارضتها برأيه أو برأي غيره.
فـ”لم يكن الصحابة رضي الله عنهم يعارضون نصوص الوحي بالرأي، بل كانت النصوص أجل في صدورهم وأعظم في قلوبهم من أن يعارضوها بقول أحد من الناس، ولكنهم كانوا يستشكلون بعض النصوص، ويوردون استشكالاتهم على النبي صلى الله عليه وسلم فيجيبهم عليها، وكانوا يسألونه عن الجمع بين النصوص التي ظاهرها التعارض، ولم يكن أحد منهم يورد عليه معقولا يعارض النص البتة، ولا عرف فيهم أحد -وهم أكمل الأمة عقولا- عارض نصا بعقله” بتصرف من مختصر الصواعق 136-137
ولهذا فإنهم كانوا يسلمون قياد عقولهم لنصوص القرآن والسنة فهذا الفاروق رضي الله عنه يقول: “إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك” متفق عليه.
وهذا علي رضي الله عنه يقول: “لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه” رواه أبو داود.
وعلى هذا استمر أتباع السلف قال عمر بن عبد العزيز: “لا رأي لأحد مع سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم” الإبانة لابن بطة.
وقال مالك: “لا تعارضوا السنة وسلموا لها”مفتاح الجنة للسيوطي.
وقال الشافعي: “يسقط كل شيء خالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يقوم رأي ولا قياس، فإن الله عز وجل قطع العذر بقوله صلى الله عليه وسلم” الأم 2/193.
وقال ابن أبي العز: “وطريق أهل السنة: أن لا يعدلوا عن النص الصحيح ولا يعارضوه بمعقول ولا قول فلان” شرح الطحاوية ص307
وقال شيخ الإسلام: “وكان من أعظم ما أنعم الله به عليهم اعتصامهم بالكتاب والسنة، فكان من الأصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان أنه لا يقبل من أحد قط أن يعارض القرآن لا برأيه ولا ذوقه ولا معقوله ولا قياسه ولا وجده، فإنهم ثبت عنهم بالبراهين القطعيات والآيات البينات أن الرسول جاء بالهدى ودين.. فكان القرآن هو الإمام الذي يقتدى به، ولهذا لا يوجد فى كلام أحد من السلف أنه عارض القرآن بعقل ورأي وقياس، ولا بذوق ووجد ومكاشفة..” مجموع الفتاوى 13/28-29
فأهل السنة وأتباع منهج السلف في كل زمان ومكان مجتمعون متوحدون مؤتلفون “وكان السبب في اتفاق أهل الحديث، أنهم أخذوا الدين من الكتاب والسنة، فأورثهم الاتفاق والائتلاف، وأهل البدعة أخذوا من المعقولات والآراء، فأورثهم الافتراق والاختلاف، إذ دلائل العقل قلما تتفق، بل عقل كل واحد يروي صاحبه غير ما يرى الآخر” الحجة في بيان المحجة 241.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *