من آفات إعجاب المرء بنفسه تطلعه إلى الصدارة، وشغفه في الريادة، ومحبته للرئاسة في أمر دين أو دنيا، حتى قال أحد السلف: “ولا تر المعجب إلا طالبا للرئاسة”، وصدق أبو نعيم رحمه الله لما قال: “والله ما هلك من هلك إلا بحب الرئاسة”.
وذلك لأن صاحبها ما تطلع إليها وأحبها إلا للرغبة في التحرر من سلطة الآخرين أو رغبة في تحصيل غرض من أعراض الدنيا، أو غفلة عن تابعاتها، أو غفلة عن عواقب التقصير فيها، أو رغبة في التسلط وإذلال الآخرين.
قال أبو العتاهية رحمه الله:
حب الرئاسة أطغى من على الأرض *** حتى بغى بعض فيها على بعض
وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: “ما من أحد أحب الرئاسة إلا حسد وبغى، وتتبع عيوب الناس، وكره أن يذكر أحد بخير” الجامع لابن عبد البر.
فاعرف حقيقة نفسك ولا تتجاهل مقدار أمرك فـ “من طلب الرئاسة قبل وقتها عاش في ذل” كما قال أبو حنيفة رحمه الله، (عقود الجمان).
وقال الخطيب في الجامع: “كان يقال: من طلب الرياسة وقع في الدياسة”.
يقال: داس فلانا دياسة: أذله أو وطئه برجله.
فيا هذا! تمهل ولا تعجل فإنه من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه.
ففي تعظيم الفتيا لابن الجوزي رحمه الله قال يزيد بن هارون: “من طلب الرئاسة في غير أوانها حرمه الله إياها في أوانها”.
واعلم عبد الله أن النفوس ذليلة وألسنة طويلة، وكفاءة ضئيلة، فكيف أراك تدفع بنفسك إلى لين العريكة.
وعن شعيب بن حرب قال: “من طلب الرئاسة ناطحته الكباش، ومن رضي بأن يكون ذنبا أبا الله إلا أن يجعله رأسا” نفسه.
فحب الرئاسة داء ما له من دواء إلا التقوى والإخلاص لرب الأرض والسماء.
قال أحدهم:
حب الرئاسة داء لا دواء له *** وقل ما تجد الراضين بالقسم
وقال إسحاق بن خلف: “والله الذي لا إله إلا هو لإزالة الجبال الرواسي أيسر من إزالة الرئاسة” أي: من القلوب.
وقال الشاطبي رحمه الله: “يعسر خروج حب الرئاسة من القلب إذا انفرد، حتى قالوا: حب الرئاسة آخر ما يخرج من رؤوس الصديقين! فكيف إذا انضاف إليه من الهوى من الأصل، وانضاف إلى هذين الأمرين دليل -في ظنه- شرعي على صحة ما ذهب إليه؟! فيتمكن الهوى من القلب تمكنا لا يمكن في العادة الانفكاك عنه، وجرى منه مجرى الكلب من صاحبه” الاعتصام.
وعليه كان حب الصدارة والتطلع إلى الرياسة أمر مذموم في ميزان الإسلام ومنهي عنه، بل عليه الوعيد الشديد.
يقول عليه الصلاة والسلام: “إنا والله لا نولي على هذا العمل أحدا سأله ولا أحدا حرص عليه” متفق عليه.
ويقول أبو ذر رضي الله عنه: “قلت يا رسول الله: ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي ثم قال يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها” مسلم.
وقد يقال: إذا كان هذا هو موقف الإسلام من التطلع إلى الصدارة وطلب الريادة، فما بال نبي من أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام سألها كما ذكر الله ذلك في كتابه على لسان نبيه يوسف عليه السلام حيث قال: “اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ”.
فنقول جوابا:
1ـ هذا شرع من قبلنا، والأخذ به من المختلف في بين أهل العلم وعلى اعتماده كما هو مذهب الجماهير، كما في الاقتضاء لابن تيمية رحمه الله، فهو مقيد بقولهم: “شرع ما قبلنا شرع لنا إن لم يرد في شرعنا ما يرده” وحكم الإسلام في الطالب للرئاسة الراغب في الصدارة قد علم.
2ـ أن يوسف عليه الصلاة والسلام لم يسأل ذلك ابتداء وإنما عرضت عليه، كما يدل عليه السياق، “وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ” فضمن له الأمن والتمكين ثم “قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ”.
3ـ أنه عليه السلام مُزَكّـًا من الله عز وجل وله شهادة منه تعالى مكتوب عليها “إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ”، وأهل البلاغة يفرقون بين الحافظ والحفيظ، كما يفرقون بين العالم والعليم فتأمل.
4ـ أنه عليه السلام تصرف بمنصب النبوة والرسالة فلو جاز لأحد أن يقتدي به فيه فوارثه الشرعي وهو العالم المجتهد، فله أن يثني على نفسه وأن يخبر بقدر مقامه على وجه الشكر لله تعالى وللمصلحة الشرعية.
قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله: “فإذا كان ذلك فجائز للعالم حينئذ الثناء على نفسه والتنبيه على موضعه، فيكون حينئذ تحدث بنعمة ربه عنده على وجه الشكر لها” الجامع له.
5ـ أن ما سبق ذكره من ذم حب الرئاسة والتطلع إلى الصدارة القصد منه حب ذلك للدنيا، أما من أحب ذلك للدين وكان مؤهلا وسأل الله تعالى أن يجعله للمتقين إمام يقتدي به أهل التقوى كما اقتدى هو بالمتقين، ولكي يأتمُّوا به في الخير، ويقتفوا أثر الرسول عليه الصلاة والسلام على يده فهذا لا يذم بل يحمد.
قال ابن القيم رحمه الله: “والفرق بين حب الرياسة وحب الإمارة للدعوة إلى الله هو الفرق بين تعظيم أمر الله والنصح له وتعظيم النفس والسعي في حظها، فإن الناصح لله المعظم له المحب له يحب أن يطاع ربه فلا يعصى، وأن تكون كلمته هي العليا، وأن يكون الدين كله لله، وأن يكون العباد ممتثلين أوامره مجتنبين نواهيه، فقد ناصح الله في عبوديته، وناصح خلقه في الدعوة إلى الله، فهو يحب الإمامة في الدين بل يسأل ربه أن يجعله للمتقين إماما، يقتدي به المتقون كما اقتدى هو بالمتقين فإذا أحب هذا العبد الداعي إلى الله أن يكون في أعينهم جليلا، وفي قلوبهم مهيبا، وإليهم حبيبا، وأن يكون فيهم مطاعا لكي يأتموا به ويقتفوا أثر الرسول على يده، لم يضره ذلك بل يحمد عليه لأنه داع إلى الله يحب أن يطاع ويعبد ويوحد، فهو يحب ما يكون عونا على ذلك موصلا إليه ولهذا ذكر سبحانه عباده الذين اختصهم لنفسه وأثنى عليهم في تنزيله وأحسن جزاءهم يوم لقائه فذكرهم بأحسن أعمالهم وأوصافهم ثم قال: “وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً” فسألوه أن يقر أعينهم بطاعة أزواجهم وذرياتهم له سبحانه، وأن يسرّ قلوبهم باتباع المتقين لهم على طاعته وعبوديته فإن الإمام والمؤتم متعاونان على الطاعة، فإنما سألوه وما يعانون به المتقين على مرضاته وطاعته وهو دعوتهم إلى الله بالإمامة في الدين التي أساسها الصبر واليقين كما قال تعالى: “وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ،” وسؤالهم أن يجعلهم أئمة للمتقين هو سؤال أن يهديهم ويوفقهم ويمن عليهم بالعلوم النافعة والأعمال الصالحة ظاهرا وباطنا التي لا تتم الإمامة إلى بها..
وهذا بخلاف طلب الرياسة فإن طلابها يسعون في تحصيلها لينالوا بها أغراضهم من العلو في الأرض، وتعبد القلوب لهم وميلها إليهم، ومساعدتهم لهم على جميع أغراضهم، مع كونهم عالين عليهم قاهرين لهم فترتب على هذا المطلب من المفاسد مالا يعلمه إلا الله من البغي والحسد والطغيان والحقد والظلم والفتنة والحمية للنفس دون حق الله وتعظيم من حقره الله واحتقار من أكرمه الله، ولا تتم الرياسة الدنيوية إلا بذلك ولا تنال إلا به وبأضعافه من المفاسد..” الروح