قال شيخ الإسلام: “ومن الصوفية من يسقط عن نفسه بعض التكاليف دون البعض الآخر، فيزعم مثلاً أن الصلاة سقطت عنه، لأنه وصل إلى المقصود الذي من أجله شرعت الصلاة، وبالتالي فهي لا تجب عليه بعد الوصول، وبعضهم يزعم أن الصلاة سقطت عنه وقت المشاهدة، وبعضهم يزعم سقوط الحج عنه، ومنهم من يزعم أنه استغنى بالتوبة والحضور عن سائر العبادات والطاعات، ومنهم من يستحل المحرمات كالفطر في رمضان من غير عذر، ويستحل شرب الخمر، ويزعم أنها لا تحرم إلا على العوام دون الخواص، وذلك لزكاة نفوسهم وصلاح أعمالهم.
هذا وقد أجمعت الأمة على كفر من جحد واجباً من الواجبات الظاهرة المتواترة، أو جحد تحريم المحرمات الظاهرة المتواترة، أو جحد حل بعض المباحات الظاهرة المتواترة كالخبز واللحم والنكاح” .
قال ابن القيم رحمه الله: “وهؤلاء أعظم كفراً وإلحاداً، حيث عطلوا العبودية وظنوا أنهم استغنوا عنها بما حصل لهم من الخيالات الباطلة والتي هي أماني النفس، وخداع الشيطان؛ وكأن قائلهم إنما عنى نفسه وذوي مذهبه بقوله:
رضوا بالأماني وابتلوا بحظوظهم وخاضوا بحار الحب دعوى فما ابتلوا فهم في السرى لم يبرحوا من مكانهم وما ظعنوا في السير عنه وقد كلوا .
وبعد فأين هؤلاء من قوله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ أي: الموت.
وأين هم من قوله عن صفوة عباده: ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ .
بل أين هؤلاء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحوالهم في التعبد، كما قال سبحانه عنهم وعن نبيهم وخليلهم: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا﴾ .
بل إن شيوخ الصوفية أنفسهم صرحوا بوجوب اتباع الكتاب والسنة والعمل بهما.
يقول ابن القيم رحمه الله: “وقد صرح أهل الاستقامة وأئمة الطريق بكفر هؤلاء فأخرجوهم من الإسلام، وقالوا لو وصل العبد من القرب إلى أعلى مقام يناله العبد لما سقط عنه من التكليف مثقال ذرة، أي: ما دام قادراً عليه” .
ومن ذلك قول الجنيد بن محمد: “عِلْمُنَا هذا مشتبك بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم” .
وقال أيضا: “الطرق كلها مسدودةٌ على الخلْق، إلا على مَن اقتفى أثَر الرسول -صلى الله عليه وسلم- واتبع سنته، ولزم طريقته، فإنَّ طُرُق الخيرات كلها مفْتوحة عليه” .
وقوله: “من لَم يحفظ القرآن، ولَم يكتب الحديث، لا يُقتدى به في هذا الأمر؛ لأنَّ علمنا هذا مُقيَّد بالكتاب والسُّنَّة” .
وساق في “الحلية” بسنده:
وقال غير مرة: “علمنا مضبوط: الكتاب والسُّنَّة، من لَم يحفظ القرآن ولَم يكتب الحديث، ولَم يتفَقَّه، لا يُقتَدَى به” .
وسُئل عنْ أول مقام التوحيد فقال: قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (كأنَّك تراه) .
ويقول الطوسي صاحب “اللمع”: سمعت أبا عمر إسماعيل بن نجيد يقول: سمعت أبا عثمان سعيد بن عثمان الحيرى يقول: “من أمر السُّنة على نفسه قولاً وفعلاً، نطق بالحكمة… وقال سهل بن عبد الله التستري: كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فباطل. وقال أبو سليمان الداراني: ربما تنكت الحقيقة قلبي أربعين يومًا فلا آذن لها أن تدخل قلبي إلا بشاهدين من الكتاب والسنة .
وقال أبو محمد الجريري: “سمعتُ الجنيد يقول لرجل ذكر المعرفة، فقال الرجل: أهل المعرفة بالله يصلون إلى ترك الحركات من باب البر والتقرُّب إلى الله، فقال الجنيد: إن هذا قولُ قومٍ تكلموا بإسقاط الأعمال، وهذه عندي عظيمة، والذي يسرق ويزني أحسن حالاً من الذي يقول هذا!” .
ونص آخر يؤكد أهمية العمل عن الجنيد ما ذكره عند قوله تعالى: ﴿وَدَرَسُوا مَا فِيهِ﴾ ، قال: “تركوا العمل به” .
ويفهم من كلام الجنيد أيضًا أن المزية لا ترفع التكليف، وهذا ما عبر عنه أبو العباس أحمد بن زروق؛ إذ قال: “ثبوت المزية لا يقضي برفع الأحكام، ولزومه الأحكام لا يرفع خصوص المزيّة، فمن ثبت عليه أو لزمه حد وقع عليه، مع حِفْظ حرمته الإيمانيَّة أصْلاً، فلا يُمتهن عرضه إلا بحقه على قدر الحق المسوغ له، وإن ثبتت مزيَّة دينيَّة لَم تُرفع إلا بموجب رفعها” .
ويوافق الإمام الجنيد أبو علي الروذباري الصُّوفي، حين سُئِل عمَّن يسمع الملاهي ويقول: هي لي حلال؛ لأنِّي وصلتُ إلى درجة لا تؤثر فيَّ اختلاف الأحوال، فقال: نعم، وصل، ولكن إلى سقر” .
ويفرد عماد الدين الواسطي (ت711هـ) فصلاً كاملاً في أحد كتبه أسماه “في بيان المطلوب حقيقة هو في الكتاب والسنة دون غيرهما من الأشياء والطرق” يقول فيه: “من جعل علم الصوفية قبلة قلبه أعطته حالاً مجملاً لا تفصيل فيه، ومن جعلها طريقًا إلى أن يستنبط بها من الكتاب والسنة الحقائق التي أشارت علوم الطائفة إليها، فقد وفق وهدي إلى صراط مستقيم” .
وفي كلام الواسطي (ت711هـ) وغيره من أئمة التصوف دلالة قوية على ضرورة التزام التصوف بكتاب الله تعالى وسنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، واعتماده في استنباط الحقائق منهما دون غيرهما، وأن من يفعل ذلك فجزاؤه التوفيق والفلاح .
وقال إبراهيم بن محمد النصر أبادي: “أصل هذا المذهب ملازمة الكتاب والسنة وترك الأهواء والبدع، والتمسك بالأئمة، والاقتداء بالسلف، وترك ما أحدثه المتأخرون والمقام على سلك الأولين”.
وسئل إسماعيل بن نجيد ما الذي لا بد للعبد منه فقال: “ملازمة العبودية والسنة ودوام المراقبة، وسئل عن التصوف فقال: هو الصبر تحت الأمر والنهي.
وعقد السراج فصلاً في “اللمع”: “باب في ذكر الفرقة التي غلطت في الإباحة والحظر والرد عليهم”.
ثم علَّق: “وإنما غلطوا في ذلك بدقيقة خفيتْ عليهم، من جهلهم بالأصول، وقلة حظهم من علم الشريعة” .
وهو في ذلك يمثل خير تمثيل قمة الشرع وقمة العقل، وغاية ما ينتهي إليه التصوُّف الإيجابي .
وقال أحمد بن أبي الحواري: من عمل بلا اتباع سنة فباطل عمله، وقال عبد الله الخياط: “الناس قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا على ما يقع في قلوبهم، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فردهم من القلب إلى الدين والشريعة” .
وللحديث بقية إن شاء الله تعالى..