خطوات الاستدلال بالأدلة عند أهل السنة والحديث “اعتبار القياس مصدرا من مصادر التشريع” رشيد مومن الإدريسي

عرف القياس عند أرباب الأصول بأنه “إلحاق فرع بأصل في الحكم، لعلة جامعة بينهما” .
ويسمى عند العلماء بـ”القياس الصحيح”
وبهذا التعريف يتضح أن للقياس أربعة أركان:
1. الركن الأول: الأصل وهو {المقيس عليه}.
2. الركن الثاني: الفرع، وهو المراد بإلحاقه بالأصل المقيس عليه وحمله عليه.
3. الركن الثالث: حكم الأصل، وهو العلة الجامعة بين الأصل والفرع المقتضية للحمل.
4. الركن الرابع: الوصف الجامع، وهو العلة الجامعة بين الأصل والفرع المقتضية للحمــل.
مثاله: القول بتحريم النبيذ (الفرع) (المقيس) قياسا على الخمر (الأصل) أو (المقيس عليه) للعلة الجامعة بينهما وهي “الإسكار”.

حجية القيـاس:
لقد دل الكتاب والسنة وتطبيق السلف على اعتبار القياس الصحيح دليلا شرعيا ومن ذلك:
قوله تعالى: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ) (الأنبياء:104) ووجه الاستدلال: تشبيه إعادة الخلق بابتدائه، وقياسه عليه.
ومن السنة: أن رجلا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، ولد لي غلام أسود، فقال: “هل لك من إبل؟ ” قال: نعم، قال: “ما ألوانها؟ ” قال: حمر، قال: “هل فيها من أورق؟” قال: نعم، قال “فأنى ذلك؟” قال: لعله نزعه عرق، قال: “لعل ابنك هذا نزعه عرق” متفق عليه.
قال العلماء: فيه دليل على صحة القياس و الاعتبار بالنظر.
و من الأدلة التطبيقية للسلف الصالح على العمل بالقياس: قول عمر –رضي الله عنه-: “رأيت لو كان لك إبل فهبطت واديا له غدوتان إحداهما خصبة و الأخرى جدبة أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله؟ ” متفق عليه.
فقد قاس عمر -رضي الله عنه- رعي العدوتين لكونه واضحا لا ينازع فيه أحد مع مساواته لمسألة النــزاع، ومقصوده أن الناس رعية له استرعاه الله تعالى عليها، فيجب عليه الاحتياط لها، فإن تركه نسب إليه العجـز، واستوجب العقوبة من الله.
واعلم أن جمهور العلماء اتفقوا على إثبات القياس والاحتجاج به من حيث الجملة، بل ذكره كثير من علماء أهل السنة والجماعة ضمن الأدلة المتفق عليها.
فائـدة:
قال الحافظ ابن عبد البر -رحمه الله-: “وأما القياس على الأصول والحكم للشيء بحكم نظيره، فهذا ما لا يخالف فيه أحد من السلف، بل كل من رُوي عنه ذم القياس قد وجد له القياس الصحيح منصوصاً، لا يدفع هذا إلا جاهل أو متجاهل مخالف للسلف في الأحكام” الجامع 2/895.
واعلم أن “القياس: إنما يعدلُ إليه وحده إن فقد النص، فهو أصل يرجع إليه إذا تعذر غيره، وهو مؤيد للنص، فجميع ما نص الشارع على حكمه فهو موافق للقياس لا مخالف له” اهـ.
واعلم -كذلك- أن الناس في القياس طرفان ووسط:
فطرف أنكر القياس أصلا، وطرف أسرف في استعماله حتى رد به النصوص الصحيحة، والحق هو التوسط بين الطرفين، وهذا هو مذهب السلف الصالح، فإنهم لم ينكروا أصل القياس ولم يثبتوه مطلقا بل أخذوا بالقياس ضرورة واحتجوا به وفق الضوابط الآتية:
1. ألا يوجد في المسألة نص.
2. أن يصدر هذا القياس من عالم مؤهل استجمع شروط الاجتهاد.
3. أن يكون القياس في نفسه صحيحاً، استكمل شروط القياس الصحيح.

شروط القياس الصحيح:
للقياس الصحيح شروط معلومة عند العلماء جماعها خمسة:
1. أن لا يصادم دليلا أقوى منه، فلا اعتبار بقياس يصادم النص أو الإجماع أو أقوال الصحابة -على القول بحجية قول الصحابي- ويسمى القياس المصادم لما ذُكر (فاسد الاعتبار).
2. أن يكون حكم الأصل ثابتا بنص أو إجماع، فإن كان ثابتا بقياس لم يصح القياس عليه، وإنما يقاس على الأصل الأول لأن الرجوع إليه أولى، ولأن قياس الفرع عليه الذي جعل أصلا قد يكون غير صحيح، ولأن القياس على الفرع ثم الفرع على الأصل تطويل بلا فائدة.
3. أن يكون لحكم الأصل علة معلومة منضبطة ليمكن الجمع بين الأصل والفرع فيها فإن كان حكم الأصل تعبدياً محضاً أو علته غير منضبطة لم يصح القياس عليه.
4. أن تكون العلة مشتملة على معنى مناسب يعلم من قواعد الشرع اعتبارها كالإسكار في الخمر.
فإن كان المعنى وصفاً طردياً لا مناسبة فيه لم يصح التعليل به كالسواد والبياض مثلاً.
مثال ذلك: حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن بريرة خيِّرت على زوجها حين عتقت، وكان زوجها عبداً أسود.
فقوله: “أسود” وصف طردي لا مناسبة فيه للحكم.
لذلك يثبت الخيار للأمة إذا عتقت تحت عبد وإن كان أبيض، ولا يثبت الخيار للأمة إذا عتقت تحت حر و إن كان أســود.

واعلم أن العلة (الوصف المناسب المؤثر) لها طرق لا ثباتها وهي باختصــار:
1. النـــص: ومنه ما هو صريح في العلية، ومنه ما ليس صريحا في التعليل، وهذا يسمى بالإيماء والتنبيه على العلة.
2. الإجمــاع: والمراد بهذا المسلك: أن تجتمع الأمة على أن هذا الحكم علته كذا، كالإجماع على أن الصغر علة الولاية في المال أو في الإجبار على النكاح.
3. الاستنبـــاط.
4. أن تكون العلة موجودة في الفرع كوجودها في الأصل، كالإيذاء في ضرب الوالدين المقيس على التأفيف، فإن لم تكن الصلة موجودة في الفرع لم يصح القيــاس.

أقســـام القياس
ينقسم القياس إلى جلي (قطعي) و خفي (ظني):
1. فالجلــي: ما ثبتت علته بنص أو إجماع، أو كان مقطوعاً فيه بنفي الفارق بين الأصل والفرع.
مثــــال ما ثبتــت علته بالنص: قياس المنع من الاستجمار بالدم النجس الجاف على المنع من الاستجمار بالرَّوثة، فإن علة حكم الأصل ثابتة بالنص حيث أتى ابن مسعود رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه و سلم بحجرين وروثة ليستنجي بهن فأخذ الحجرين وألقى الروثة، وقال: “هذا ركس”
والركس: النجس.
ومثــال ما ثبتت علته بالإجماع: نهى النبي صلى الله عليه و سلم أن يقضي القاضي وهو غضبان، فقياس منع الحاقن من القضاء على منع الغضبان منه من القياس الجلي، لثبوت علة الأصل بالإجماع، وهي تشويش الفكــر وانشغال القلب.
ومثال ما كان مقطوعا فيه بنفي الفرق بين الأصل والفرع: كقياس تحريم إتلاف مال اليتيم باللِبس على تحريم إتلافه بالأكــل للقطع بنفي الفارق بينهما.
2. والخفـــي: ما ثبتت علته بالاستنباط ولم يقطع فيه بنفي الفارق بين الأصل والفرع مثاله: قياس الأرز على البر في حكم الربا، وكذا قياس النقود الورقية على الذهب في حكم الربــا، فالخلاف حاصل في علة الأصــل. فتنبــه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *