الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
قال الله: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ} (الشعراء:183).
البخس هو النقص؛ ومنه قوله تعالى حكاية عن الجن: {فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا} (الجن:13)، قال يحيى الفراء: البخس النقص، والرهق الظلم. انظر فتح الباري (10/79).
ومنه الوعيد على التطفيف والأمر بالوزن بالقسطاس المستقيم، وهو كثير في القرآن والحديث.
قال الشوكاني عن البخس: وهو يكون بالتعييب للسلعة أو التزهيد فيها، أو المخادعة لصاحبها والاحتيال عليه، وكل ذلك من أكل أموال الناس بالباطل. (فتح القدير 3/61).
وقد جاءت النصوص تأمر بالعدل والقسط وتنهى عن الظلم والجور، فالمقسطون يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن -وكلتا يديه سبحانه يمين- الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا، ومن العقوبات المعجلة في الدنيا لمن ينقصون المكيال والميزان أن يؤخذوا بالسّنين وشدّة المئونة وجور السّلطان عليهم.
وفي قول الله: {أَشْيَاءهُمْ} دليل على العموم، فالأشياء أعمّ مما يكال ويوزن، وإن كان البخس بتطفيف الكيل والوزن يدخل في ذلك دخولاً أوّلياً، والآية وردت في سياق نهي شعيب عليه السلام قومه عن تطفيف المكيال، لكن من المعلوم أن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، ولذلك استدل العلماء بهذه الآية ونظائرها على صور كثيرة من البخس.
ومن هذه الصور ما يقع من النساء؛ ففي الصحيحين أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى أكثر أهل النار النساء؛ قال: يكفرن العشير ويكفرن الإحسان لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئا قالت ما رأيت منك خيرا قط.
وهذا لا يعم جميع النساء، ولا يختص بهن أيضا، ولكن الحكم للغالب؛ فمن النساء من ترضى باليسير وتحفظ المعروف، ومن الرجال من يبغض المرأة إذا كره منها خلقا واحدا، وفي الحديث: لا يَفْرَك (لا يبغض) مؤمن مؤمنة؛ إن كره منها خلقا رضي منها آخر. رواه مسلم.
ومن صور البخس ما يقع بين الأصحاب؛ أن يحاسب بعضهم بعضا على النظرات والخطرات، ويحقر العطية ويزدري الحسنات، ويضخم الهفوات والسيئات، وإذا خولف ضجر، وإذا خاصم فجر.
ومن أبشع صور البخس ما يقع ممن يتصدى لنقد الكتب وأهل العلم، “والكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل لا بجهل وظلم كحال أهل البدع فإن الرافضة تعمد إلى أقوام متقاربين في الفضيلة تريد أن تجعل أحدهم معصوما من الذنوب والخطايا، والآخر مأثوما فاسقا أو كافرا، فيظهر جهلهم وتناقضهم” منهاج السنة النبوية (62/16).
وقد سمعنا من ينهى عن قراءة بعض الكتب بل ويأمر بإحراقها لأن أصحابها أخطؤوا في أحرف منها. أيحكم بهذا على فتح الباري؟ وشراح الحديث بعده عيال عليه، حتى قال الشوكاني: لا هجرة بعد الفتح. ويقصد كتاب ابن حجر رحمه الله. وهل سلم كتاب من الأخطاء؟
لما أكمل الشافعي كتابه ناوله تلميذه البويطي فقال: “خذ هذا الكتاب على خطأ كثير فيه”، قال: قلت: يا أبا عبد الله أصلحه لنا، قال: “كيف وقد قال الله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً} أبى الله العصمة إلا لكتابه”.
فبعض الناس تضيق صدورهم بمن يخالفهم، فإذا سمعوا من عالم اجتهادا أخطأ فيه، أو كلاما مجملا موهما، بادروا إلى رميه بكل نقيصة، وردوا خطأه وصوابه، بل واتهموا نيته وقصده، وأعراض العلماء حفرة من حفر النار، ولحومهم مسمومة وسنة الله في منتقصيهم معلومة؛ فمن وقع فيهم بالثلب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب. ومن استخف بالعلماء ذهبت آخرته. والعلماء بحار وزلاتهم أقذار، وإذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث.
قال الإمام ابن قتيبة في مقدمة كتابه إصلاح غلط أبي عبيد (ص: 47): “وقد كنا زمانا نعتذر من الجهل، فقد صِرنا الآن نحتاج إلى الاعتذار من العلم، وكنا نؤمّل شكر الناس بالتنبيه والدلالة، فصرنا نرضى بالسلامة، وليس هذا بعجيب مع انقلاب الأحوال، ولا ينكر مع تغير الزمان، وفي الله خلف، وهو المستعان”.