صاحب الحق في هذه الدنيا مغلوب

لابن القيم رحمه الله تعالى في: (إغاثة اللهفان 2/177-179) كلام حافل في هذا ونحوه أنقله بطوله قال رحمه الله تعالى:

“وقال: أما الدنيا فإنَّا نرى الكفَّار والمنافقين يغْلِبُون فيها، ويظهرون، ويكون لهم النصر والظفر. والقرآن لا يرِدُ بخلاف الحِسِّ، ويعتمد على هذا الظن: إذا أُديل عليه عدوٌّ من جنس الكفار والمنافقين، أو الفجرة الظالمين، وهو عند نفسه من أهل الإيمان والتقوى، فيرى أن صاحب الباطل قد علا على صاحب الحق، فيقول: أنا على الحقِّ، وأنا مغلوبٌ، فصاحب الحقِّ في هذه الدنيا مغلوبٌ مقهور، والدولة فيها للباطل.
فإذا ذُكِّر بما وعد الله تعالى من حُسنِ العاقبة للمتقين والمؤمنين، قال: هذا في الآخرة فقط.
وإذا قيل له: كيف يفعلُ الله تعالى هذا بأوليائه وأحبَّائِه، وأهلِ الحقِّ؟
فإن كان ممن لا يُعلِّلُ أفعال الله تعالى بالِحِكم والمصالح، قال: يفعلُ الله في مُلكِه ما يشاء، ويحكم ما يريد {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الأنبياء).
وإن كان ممن يُعلِّل الأفعال، قال: فعل بهم هذا ليُعرَّضهم بالصبر عليه لثواب الآخرة وعُلوِّ الدرجات، وتوْفيةِ الأجر بغير حساب.
ولكلِّ أحدٍ مع نفسه في هذا المقام مُباحثاتٌ وإيراداتٌ وإشكالات وأجوبة، بحسب حاصله وبضاعتِه، من المعرفة بالله تعالى وأسمائه وصفاتِه وحِكْمته، والجهل بذلك، فالقلوبُ تغْلِي بما فيها، كالقدْر إذا استجْمعتْ غلياناً.
فلقد بلغنا وشاهدنا من كثير من هؤلاء من التظلُّم للِرَّبِّ تعالى واتِّهامه، ما لا يصْدُرُ إلا من عدو، فكان الجهْمُ يخرجُ بأصحابِه، فيُوقِفُهم على الجذْمى وأهل البلاء، ويقول: انظروا، أرْحمُ الراحمين يفعلُ مثل هذا؟ إنكاراً لرحمته، كما أنكر حِكمته.
فليس الله عند جهمٍ وأتباعه حكيماً ولا رحيماً.
وقال آخر من كبار القوم: ما على الخلق أضرُّ من الخالق.
وكان بعضهم يتمثل:
إذا كان هذا فِعله بمحبِّة *** فماذا تراهُ في أعادِيه يصْنعُ؟
وأنت تشاهد كثيراً من الناس إذا أصابه نوعٌ من البلاء يقول: يا ربِّ: ما كان ذنبي حتى فعلت بي هذا؟
وقال لي غير واحد: إذا تبتُ إليه وأنبْتُ وعملتُ صالحاً ضيَّق عليَّ رزقي، ونكد عليَّ معيشتي، وإذا رجعْتُ إلى معصيته، وأعْطيْتُ نفسي مُرادها جاءني الرِّزْقُ والعوْنُ، ونحو هذا.
فقلت لبعضهم: هذا امتحان منه، ليرى صِدْقك وصبرك، هل أنت صادقٌ في مجيئك إليه وإقبالك عليه، فتصبر على بلائِه؛ فتكون لك العاقبةُ، أم أنت كاذبٌ فترجع على عقِبك؟
وهذا الأقوالُ والظنونُ الكاذبةُ الحائدةُ عن الصواب مبْنيةٌ على مُقدمتين:
إحداهما: حُسْنُ ظنِّ العبدِ بنفسه وبدينه، واعتقادُه أنه قائمٌ بما يجبُ عليه، وتارك ما نُهي عنه، واعتقادُه في خصْمه وعدُوِّه خلاف ذلك، وأنه تارك للمأمور، مرتكب للمحظور، وأنه نفْسه أولى بالله ورسوله ودِينه منه.
والمقدمة الثانية: اعتقاده أن الله سبحانه وتعالى قد لا يُؤيد صاحب الدين الحق وينْصُره، وقد لا يجعلُ له العاقبة في الدنيا بوجهٍ من الوجوه، بل يعيش عُمره مظلوماً مقهوراً مُسْتضاما، مع قيامه بما أُمِر به ظاهراً وباطناً، وانتهائه عما نُهِي عنه باطناً وظاهراً، فهو عند نفسه قائمٌ بشرائع الإسلام، وحقائق الإيمان، وهو تحت قهر أهل الظلم، والفجور والعُدْوان.
فلا إله إلا الله، كم فسد بهذا الاغترار مِنْ عابدٍ جاهلٍ، ومُتديِّن لا بصيرة له، ومُنْتسب إلى العلم لا معْرِفة له بحقائق الدين.
فإنه من المعلوم: أن العبد وإن آمن بالآخرة، فإنه طالبٌ في الدنيا لما لابُدَّ له منه: مِنْ جلْب النَّفْعِ ودفع الضر، بما يعتقد أنه مُستحب أو واجب أو مباحٌ، فإذا اعتقد أنَّ الدين الحقَّ واتِّباع الهدى، والاستقامة على التوحيد، ومتابعة السُّنة ينافي ذلك، وأنه يُعادي جميع أهل الأرض، ويتعرض لما لا يقدر عليه من البلاء، وفوات حُظوظه ومنافعه العاجلة؛ لزم من ذلك:
إعراضهُ عن الرَّغبة في كمال دينه، وتجرده لله ورسوله، فيعرض قلبه عن حال السابقين المقربين، بل قد يُعرض عن حال المقتصدين أصحاب اليمين، بل قد يدخل مع الظالمين، بل مع المنافقين، وإن لم يكن هذا في أصل الدين، كان في كثير من فروعه وأعماله، كما قال النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: “بادِرُوا بالأعمال فِتناً كقطع الليل المظلم، يُصبحُ الرجل مؤمناً ويُمسي كافراً، ويُمسي كافراً ويُصْبح مؤمناً، يبيعُ دينه بِعرضٍ من الدنيا”.
وذلك أنه إذا اعتقد أن الدين الكامل لا يحصلُ إلا بفساد دُنياه، من حصول ضرر لا يحتمله، وفوات منفعة لابُدَّ له منها؛ لم يُقدم على احتمال هذا الضرر، ولا تفويت تلك المنفعة.
فسبحان الله! كم صدَّت هذه الفتنةُ الكثير من الخلق، بل أكثرهم، عن القيام بحقيقة الدين” اهـ. (انظر معجم المناهي اللفضية ص:331).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *