خطوات الاستدلال بالدليل عند أهل السنة والحديث “مراعاة فهم السلف الصالح لأن طريقتهم أسلم وأعلم وأحكم” -الحلقة الرابعة عشرة- رشيد مومن الإدريسي

لا يشك من شم رائحة العلم، ونظر في نصوص القرآن والسنة بالفهم، وعلم حقيقة مذهب الصحابة رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان دون وهم أن “مذهب السلف هو المذهب المنصور والحق الثابت المأثور، وأهله هم الفرقة الناجية، والطائفة المرحومة التي بكل خير فائزة، ولكل مكرمة راجية”1.

فمنهج السلف الصالح هو المنهج القويم والطريق الواضح المبين فـ”ليس في العقل الصريح ولا في شيء من النقل الصحيح ما يوجب مخالفة الطريقة السلفية أصلا”2.
وعليه يرفض المرء عن رضا وقناعة ما هو مسطور في كتب كثير من المتأخرين من أن مذهب السلف أسلم، ومذهب الخلف أحكم وأعلم(!) وهي مقولة مجانبة للصواب وقائلها إما أنه تشبع بما لم يعط، أو أنه جاهل بما عليه السلف الصالح من أدلة تورث الطمأنينة واليقين، ولذلك تُخْرج أصحابها إلى الجهل والتناقض والضلال المبين.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “فكل من أعرض عن الطريقة السلفية النبوية الشرعية الإلهية فإنه لابد أن يضل ويتناقض ويبقى في الجهل المركب أو البسيط”3.
وقال كذلك رحمه الله: “ولا يجوز أيضا أن يكون الخالفون أعلم من السالفين كما قد يقوله بعض الأغبياء ممن لم يقدر قدر السلف؛ بل ولا عرف الله ورسوله والمؤمنين به حقيقة المعرفة المأمور بها”4.
“فهم (أي:أهل الكلام) متفقون فيما بينهم على أن طريق السلف أسلم، ولكن زعموا أن طريق الخلف أعلم، فكان غاية ما ظفروا به من هذه الأعلمية لطريق الخلف أن تمنى محققوهم وأذكياؤهم في آخر أمرهم دين العجائز.. فإن هذا ينادي بأعلى صوت، ويدل بأوضح دلالة على أن هذه الأعلمية التي طلبوها: الجهل خير منها بكثير، فما ظنك بعلم يقر صاحبه على نفسه: أن الجهل خير منه، وينتهي عند البلوغ إلى غايته، والوصول إلى نهايته أن يكون جاهلا به عاطلا عنه، ففي هذا عبرة للمعتبرين وآية بينة للناظرين”5.
فكيف بعد هذا يوصف علم السلف بالسلامة فحسب(!) وهو قائم على الحجة واليقين، ويوصف مذهب الخلف بالإحكام والأعلمية(!!) وهو قائم على الظن والتخمين، فإن طريق هؤلاء المتأخرين مظنون باتفاق فلا أحد منهم يقطع بالمعنى الذي صرفوا اللفظ إليه.
قال الحافظ رحمه الله نقلا عن غيره: “..وليس من سلك طريق الخلف واثقا بأن الذي يتأوله هو المراد ولا يمكنه القطع بصحة تأويله”6.
ثم كيف نباين بين (السلامة) و(الأعلمية والإحكام)؟! فإنه لا سبيل للسلامة إلا بالأمر القائم على كمال العلم وتمام الإحكام فتأمل وبالعلم تجمل.
فـ”إنه من المحال أن يكون الخالفون أعلم من السالفين كما يقوله بعض من لا تحقيق لديه -ممن لا يقدر قدر السلف، ولا عرف الله تعالى ولا رسوله ولا المؤمنين به حق المعرفة المأمور بها- من أن طريق السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم.
وهؤلاء إنما أوتوا من حيث ظنوا أن طريق السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه ذلك بمنزلة الأميين، وأن طريقة الخلف هي استخراج النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات فهذا الظن الفاسد أوجب تلك المقالة التي مضمونها نبذ الإسلام وراء الظهور، وقد كذبوا وأفكوا على طريقة السلف، وضلوا في تصويب طريقة الخلف فجمعوا بين باطلين: الجهل بطريقة السلف في الكذب عليهم، والجهل والضلال بتصويب طريقة غيرهم”7.
فمن المقرر عند أرباب النظر الحصيف أن العلم ليس بكثرة الرواية ولا بكثرة المقال ولكنه نور يُقذف في القلب8 يَفهم به العبد الحذق، ويميز به بينه وبين الباطل ويعبر عن ذلك بعبارات وجيزة محصلة للمقاصد.
قال ابن رجب رحمه الله: “وقد ابتلينا بجهلة من الناس يعتقدون في بعض من توسع في القول من المتأخرين أنه أعلم ممن تقدم، فمنهم من يظن في شخص أنه أعلم من كل من تقدم من الصحابة ومن بعدهم لكثرة بيانه ومقاله، ومنهم من يقول هو أعلم من الفقهاء المشهورين المتبوعين، وهذا يلزم منه ما قبله لأن هؤلاء الفقهاء المشهورين المتبوعين أكثر قولا ممن كان قبلهم، فإذا كان من بعدهم أعلم منه لاتساع قوله كان أعلم ممن كان أقل منهم قولا بطريق الأولى..
وهذا تنقص عظيم بالسلف الصالح وإساءة ظن بهم، ونسبته لهم إلى الجهل وقصور العلم ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولقد صدق ابن مسعود في قوله في الصحابة: (إنهم أبر الأمة قلوبا وأعمقها علوما، وأقلها تكلفا)،… وفي هذا إشارة إلى أن من بعدهم أقل علوما وأكثر تكلفا”9.
فصحابة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا أعلم الناس بأصول الدين، فهم الأفقه بالعربية ومدلولاتها إضافة إلى معايشتهم عصر التنزيل، وتلقيهم ذلك عن أعلم الخلق بالله على الإطلاق نبينا الأمين صلى الله عليه وسلم، حتى كانوا إذا استشكلوا شيئا سألوه عنه، وكان يجيبهم بما يزيل الإشكال ويبين الصواب، فهم العارفون -رضوان الله عليهم- ومن تبع طريقتهم من السلف الصالح بقواعد الدين حقا، لا أهل البدع والأهواء من المتكلمين والفلاسفة ومن سلك سبيلهم.
وعليه فمن ضوابط القول في الشريعة أن ينظر الناظر في مَن سبقه بما يقول وهل له في ذلك سلف من الصحابة والأئمة والفقهاء المعتد بهم، كما قال الإمام أحمد رحمه الله: “إياك أن تقول كلمة ليس لك فيها إمام”10.
ولأجل هذا كان السلف الصالح والأئمة يكتفون بالرواية والآثار في العلم.
قال سفيان الثوري رحمه الله: “إنما العلم كله بالآثار”11.
وقال الإمام مالك رحمه الله: “لم يكن من فتيا الناس أن يقال: لِمَ قلت هذا؟ كانوا يكتفون بالرواية ويرضون بها”12.
فمن رأى من نفسه الشذوذ والإنفراد فليتوقع أنه جانب الصواب، وإذا رأى أنه موافق لأهل العلم الكبار وللسلف الأخيار فتلك علامة التوفيق والسداد.
ولأجله كان من ضوابط أهل السنة والحديث في فهم النصوص الشرعية مراعاة فهم الأوائل فإن هذا الأخير من أهم ما يجب اعتباره في منهج الاستدلال.
قال الشاطبي رحمه الله: “فلهذا كله يجب على كل ناظر في الدليل الشرعي مراعاة ما فهم منه الأولون، وما كانوا عليه في العمل به فهو أحرى بالصواب، وأقوم في العلم والعمل”13.
فالإقبال -إذن- على علم السلف الصالح وعملهم، ومراعاة فهمهم، والسير على نهجهم وطريقة استدلالهم هو صمام الأمان إلى الحق، ومجانبة البدعة والهوى والضلال.
عن الإمام ابن المسيب رحمه الله أنه سئل عن شيء فقال: “اختلف فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أرى لي معهم قولا”.
قال ابن وضاح رحمه الله معلقا: هذا هو الحق.
وقال الحافظ ابن عبد البر عقبه: “معناه ليس له أن يأتي بقول يخالفهم به”14.
“وفي الجملة من عدل عن مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرهم إلى ما يخالف ذلك كان مخطئا في ذلك، بل مبتدعا، وإن كان مجتهدا مغفورا له خطؤه.
والمقصود بيان طرق العلم وأدلته، وطرق الصواب، ونحن نعلم أن القرآن قرأه الصحابة والتابعون وتابعوهم، وأنهم كانوا أعلم بتفسيره ومعانيه، كما أنهم أعلم بالحق الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن خالف قولهم وفسر القرآن بخلاف تفسيرهم فقد أخطأ في الدليل والمدلول جميعا”15.
ومن ثم فإحداث القول في تفسير كتاب الله وفهم نصوص السنة الذي كان السلف الصالح والأئمة على خلافه يستلزم أحد أمرين: إما أن يكون خطأ في نفسه، أو تكون أقوال السلف المخالفة له خطأ، ولا يشك عاقل أنه أولى بالغلط والخطأ من قول السلف.
……………………………..
1. لوامع الأنوار للسفاريني رحمه الله 20 – مختصره.
2. الفتاوي لابن تيمية رحمه الله 5/28.
3. درء التعارض 3/370.
4. الفتاوي 5/8.
5. التحف في مذاهب السلف للشوكاني رحمه الله 3-4.
6. الفتح 13/352، وانظر الملل والنحل للشهرستاني رحمه الله 1/101.
7. لوامع الأنوار 1/25 للسفاريني رحمه الله.
8. قال الإمام الذهبي رحمه الله: “العلم ليس هو بكثرة الرواية ولكنه نور يقذفه الله في القلب، وشرطه الاتباع والفرار من الهوى والابتداع” السير 13/323.
9. فضل علم السلف على الخلف 97-98.
10. رواه الإمام ابن الجوزي رحمه الله في مناقب الإمام أحمد رحمه الله 231.
11. أخرجه ابن عبد البر رحمه الله في جامعه 2/34 في آخرين.
12. رواه الإمام البيهقي رحمه الله في المدخل 237.
13. الموافقات 3/77.
14. جامع بيان العلم 2/29.
15. مقدمة في أصول التفسير 81.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *