الاستغناء عن الناس من أعظم لوازم توحيد العبادة وآثاره، فمن توجه إلى الله تعالى بصدق الافتقار إليه، وتمام التعلق به، فلم يلتفت قلبه إلى ما سوى الله تعالى، فهو في غاية الاستغناء عن الناس، وأعظم الناس قدراً في قلوبهم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:
(والعبد كلما كان أذل لله وأعظم افتقارا إليه وخضوعا له، كان أقرب إليه، وأعزّ له، أعظم لقدره، فأسعد الخلق أعظمهم عبودية لله، وأما المخلوق فكما قيل: احتج إلى من شئت تكن أسيره، واستعن عمن شئت تكن نظيره، وأحسن إلى من شئت تكن أميره.
فأعظم ما يكون العبد قدراً وحرمة عند الخلق إذا لم يحتج إليهم بوجه من الوجوه، فإن أحسنت إليهم مع الاستغناء عنهم كنت أعظم ما يكون عندهم، ومتى احتجت إليهم -ولو في شربة ماء- نقص قدرك عندهم بقدر حاجتك إليهم، وهذا من حكمة الله ورحمته، لكون الدين كله لله، ولا يشرك به شيئاً.
فالربُّ سبحانه أكرم ما تكون عليه أحوج ما تكون إليه وأفقر ما تكون إليه، والخلق أهون ما يكون عليهم أحوج ما يكون إليهم) .
ويقول أيضاً:
(إن اعتماده على المخلوق وتوكله يوجب الضرر من جهته، فإنه يُخذل من تلك الجهة، وهذا معلومٌ بالاعتبار والاستقراء، ما علَّق العبد رجاءه وتوكله بغير الله إلا خاب من تلك الجهة، ولا استنصر بغير الله إلا خُذل، وقال تعالى: (وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً، كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً ) .
ويقول في موضع ثالث:
(ولن يستغني القلب عن جميع المخلوقات إلا بأن يكون الله هو مولاه الذي لا يعبد إلا إياه، ولا يستعين إلا به، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يفرح إلا بما يحبه ويرضاه، ولا يكره إلا ما يبغضه الرب ويكرهه… فكل ما قوي إخلاص دينه لله كمُلت عبوديته واستغناؤه عن المخلوقات) .
وقد بيّن سلفنا الصالح أن من استغنى عن الناس، فلم يحتج إليهم، وصار همّه وشغله مرضاة ربه تعالى وحده؛ فإن الله يُحوج الناس إليه، ويجعلهم يُقبلون عليه، فتُقضى حاجته ومطالبه، وذلك فضل الله تعالى، والله ذو الفضل العظيم.
وقال مجاهد رحمه الله تعالى: (وإن العبد إذا أقبل على الله تعالى، أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه) .
وقال سفيان بن عيينة: (من استغنى بالله أحوجَ الله إليه الناس) .
وقال يحيى بن معاذ الرازي: (على قدر شغلك بأمر الله تعالى تشتغل في أمرك الخلق) .
ويقول ابن القيم: (إذا أصبح العبد وأمسى وليس همه إلا الله وحده، تحمل الله حوائجه كلها، وحمل عنه كل ما أهمه، وفرغ قلبه لمحبته، ولسانه لذكره، وجوارحه لطاعته. إن أصبح أمسى الدنيا همه، حمّله الله همومها وغمومها وأنكادها، ووكَله إلى نفسه، فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق، ولسانه عن ذكره بذكرهم، وجوارح عن خدمته بخدمتهم وأشغالهم، فهو يكدح كَدْحَ الوحش في خدمة غيره كالكير ينفخ بطنه ويعصر أضلاعه في نفع غيره . فكل من أعرض عن عبودية الله وطاعته ومحبته، بُلي بعبودية المخلوق ومحبته وخدمته) . (العبودية مسائل وقواعد ومباحث؛ للدكتور عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف).