التطاول على مقام العلماء -2- د. يوسف بن محمد مازي

نعم إن استقراء تاريخ الإسلام والمسلمين يشهد بكل صدق تولي علماء المسلمين مسؤولية التجديد والذود عن حياض هذا الدين عبر التاريخ، فقد كانوا دائما كما وصفهم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عدولا “ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين” ، فحق لهم أن يلتحقوا بركب أصحاب القدوة في التاريخ المتأسى بفعالهم على مدى الزمان، أولهم صاحب القدوة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم الذي سما على كل العبقريات البشرية والنضج الإنساني، الكامل من آدم إلى يوم البعث والنشور. ثم تبعه الأنبياء المرسلين صلوات ربي عليهم أجمعين في المقام والمهام، ثم الصحابة الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم الذين تشرفوا بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم وتخرجوا من مدرسته الإيمانية التربوية؛ فاكتسبوا منه أفضل الأخلاق وأجمل الخصال والصفات، وفي الأخير السلف الصالح من التابعين والعلماء الذين نهجوا نهج النبي صلى الله عليه وسلم في جلاله وكماله، ونهج صحبه العظام في سيرتهم وجهادهم، فأعطوا للأجيال بعدهم أسمى القدوة وأفضل الأسوة؛ لمن أراد وجه الله والدار الآخرة، فهؤلاء هم الذين هداهم الله، فبهداهم اقتده أيها المسلم، وبسيرتهم تأس أيها الشاب، وعلى طريقهم سر أيها الداعية.
{قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّـهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّـهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .
فكانوا رجال حق في الوقوف أمام الظلم والمنكر، فشهد التاريخ لهم ولا فخر بمواقف الاستبصار، ومواطن الذكرى، فتاريخ العلماء والدعاة من سلف الأمة حافل بالدروس النافعة والعبر البالغة الرائعة، والمواقف البطولية الشجاعة.
فهذا سليمان بن عبد الملك قدم المدينة وهو يريد مكة فأرسل إلى أبي حازم فدعاه فلما دخل عليه قال له سليمان يا أبا حازم مالنا نكره الموت فأجابه بكل صدق وصراحة قائلا: ”لأنكم خربتم آخرتكم وعمرتم دنياكم فكرهتم أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب”.
قال سليمان: “كيف القدوم على الله؟ فأجاب أبو حازم: “يا أمير المؤمنين أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه”.
وتمضي تلك الكلمات الصادقة لتلامس قلب سليمان وما يسعه إلا أن يبكي ويقول: ليت شعري مالي عند الله؟ قال أبو حازم: اعرض نفسك على كتاب الله تعالى حيث يقول: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيم} وأخذ سليمان يسأل وأبو حازم يجيب، إلى أن قال ما تقول فيما نحن فيه؟ قال: “أو تعفيني؟” قال: لابد فإنها نصيحة تلقيها إلي. قال أبو حازم: “إن آباءك قهروا الناس بالسيف وأخذوا هذا الملك عنوة من غير مشورة من المسلمين، ولا رضا منهم، حتى قتلوا منهم قتلة عظيمة وقد ارتحلوا”. قال رجل من الحاضرين لأبي حازم: بئس ما قلت، قال أبو حازم:”إن الله قد أخذ الميثاق على العلماء ليبيننه للناس ولا يكتمونه”؛ ثم سأل سليمان أبا حازم. وكيف لنا أن نصلح هذا الفساد؟ فأجابه: أن تأخذه من حله فتضعه في حقه” قال سليمان: ومن يقدر على ذلك؟ فأجابه: “من يطلب الجنة ويخاف النار”. ثم قال له سليمان: ارفع إلينا حوائجك قال: “قد رفعتها إلى من هو أقدر منك عليها، فما أعطاني منها يكفي وما منعني منها رضيت؛ يقول تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } ، فمن الذي يستطيع أن ينقص من كثير ما قسم، أو يزيد في قليل ما قسم” فبكى سليمان بكاء شديدا، فقال رجل من جلسائه: أسأت إلى أمير المؤمنين، فقال: “أبو حازم اسكت فإن الله تعالى أخذ ميثاق العلماء ليبيننه للناس ولا يكتمونه”
هذا ديدنهم مع الأمراء والملوك، علموا أن صنفين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إذا صلحا صلح الناسُ جميعهم؛ وإذا فسدا فسدتِ الأمةُ كلها؛ الأمراء والعلماءُ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *