تباينت مواقف الأمم السابقة من أنبيائهم ورسلهم؛ فكان منهم المؤمن المتبع لهم، وكان منهم الكافر المؤذي لهم، وكان منهم الغالي فيهم الرافع لهم عن مقامهم.
أما اليهود فكان فيهم الجفاء والتفريط والتقصير في حق أنبيائهم فقد كان من فعلهم (أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) النساء، وكانوا يخذلون أنبياءهم صلوات الله وسلامه عليهم، فكان مما قالوه لموسى: (اذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) المائدة.
و نسبوا للأنبياء عليهم السلام من النقائص والعظائم ما لا يرتضيه أحدهم في أبيه ولا في أمه، وكان حالهم كما وصف الله تعالى: (أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) البقرة.
كان هذا الغالب على اليهود، ومع ذلك كان عندهم غلو في بعض أنبيائهم ومن مظاهر ذلك أنهم كانوا يتخذون قبورهم أنبيائهم مساجد كما أخبر صلى الله عليه و سلم.
أما النصارى فكان يغلب عليهم الغلو الشديد في عيسى عليه السلام لدرجة جعله ابنا لله -تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا- مقابل التفريط في باقي الرسل وعدم الإيمان بهم.
أما المسلمون فقد آمنوا بجميع أنبياء الله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم، ولا تنقصوهم صلوات الله وسلامه عليهم ولا غلوا فيهم غلو اليهود والنصارى.
فكما أن هذه الأمة وسط بين الأمم في الأنبياء والمرسلين، فإن أهل السنة وأتباع منهج السلف وسط في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بين طائفتين من المسلمين تحقق فيهم الموعود النبوي الكوني، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ).
قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟
قَالَ: (فَمَنْ؟) رواه البخاري.
فالأولى: فَرَّطَت وقصرت في حق النبي صلى الله عليه وسلم وتطاولت على مقامه، ومن هؤلاء الشيعة الذين يعتبرون مقام الإمامة فوق درجة النبوة والرسالة عياذا بالله؛ فقد قال الخُميني: “وإن من ضرورات مذهبنا أن لأئمتنا مقاما لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل” الحكومة الإسلامية ص 52-53.
ومن هؤلاء بعض غلاة الصوفية الذي تجاسروا و ظلموا ففضلوا أولياءهم على الأنبياء، يقول عبد الكريم الجيلي في كتابه الإنسان الكامل (1/124): “معاشر الأنبياء أوتيتم اللقب، وأوتينا ما لم تُؤتوه”.
وقال أبو يزيد البسطامي: “تالله؛ إن لوائي أعظم من لواء محمد صلى الله عليه وسلم؛ لوائي من نور تحته الجان والجن والإنس كلهم من النبيين” لطائف المنن للشعراني 1/78.
ومنه قولهم تفضيلا لمقام الولاية على الرسالة:
(مَقَامُ النّبوة في برزخ*** فُوَيْقَ الرسول ودون الولي) طبقات الشعراني 1/68.
والثانية: غلت فيه صلى الله عليه وسلم ورفعته فوق منزلته ويأتي في مقدمة هؤلاء الصوفية.
فمن مظاهر غلوهم دعاؤهم إياه واستغاثتهم به؛ يقول؛ البوصيري في بردته:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به *** سواك عند حلول الحادث العَمَمِ
ومن مظاهر الغلو في جنابه صلى الله عليه وسلم الزعم بأنه صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب، قال في البردة: (فإن من جودك الدنيا وضرتها *** ومن علومك علم اللوح والقلم).
ومن ذلك اتخاذ قبره صلى الله عليه وسلم عيدا، والتمسح بالسياج المنصوب حول قبره صلى الله عليه وسلم والحلف به، ومن ذلك أيضا زعمهم أنه صلى الله عليه وسلم نور خُلق من نور الله.. والله المستعان.
أما أتباع منهج السلف فقد عصمهم الله في هذا الباب -كما في غيره -من غلو الغالين ومن جفاء المقصرين، فهم يعتقدون فيه صلى الله عليه وسلم ما جاء عن الله في كتابه، وما جاء عنه -صلى الله عليه وسلم- في سنته، لا يزيدون ولا ينقصون ولذلك فهم حزب الله المفلحون.
ولا يدعونه من دون الله، ولا يستغيثون به، ولا يرفعونه فوق مقامه، ويرون أنه لا يعلم من الغيب في حياته إلا ما علمه الله: (قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) الأعراف.
فمحمد صلى الله عليه وسلم عند أهل السنة هو عبد الله ورسوله، وهو أفضل المرسلين وخاتمهم، يحبونه ويعظمونه، ويرون أن من لوازم محبتهم له طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب وما نهى عنه وزجر، وأن لا يُعبد الله إلا بما شرع؛ قال تعالى: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) آل عمران.
قال ابن كثير: “هذه الآية حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله وأحواله”.