بَلغت الجرأة ببعض المستخفين بالهدي النبوي أن زعموا أن كثيراً من المظاهر الإسلامية، نحو إعفاء اللحى، وقص الشوارب، والنهي عن الإسبال، وما شابهها هي من العادات التي كانت للعرب في جاهليتهم، وما علموا أنها من بقايا ملة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وحاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون مبعوثاً لإحياء العادات الجاهلية.
من القواعد المقررة عند أهل العلم: التلازم بين الظاهر والباطن كما دل عليه قوله عليه الصلاة والسلام: “..ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب” رواه البخاري ومسلم.
فدل الحديث على أن فساد الظاهر دليل على فساد الباطن، كما أن صلاح الظاهر دليل على صلاح الباطن بشرط أن يكون عمل الظاهر صحيحا صالحا كما قرر أهل العلم.
قال الخطابي رحمه الله: “قد يكون المرء مستسلما في الظاهر غير منقاد في الباطن، ولا يكون صادق الباطن غير منقاد في الظاهر” شرح السنة للبغوي1/11.
وعليه فصلاح الظاهر عنوان صلاح الباطن والعكس بالعكس.
قال القاسمي رحمه الله: “آداب الظواهر عنوان آداب البواطن، وحركات الجوارح ثمرات الخواطر، والأعمال نتيجة الأخلاق” جوامع الآداب.
ومع هذا يستهين كثير من المسلمين بالمظاهر الشرعية والآداب النبوية، نحو إعفاء اللحية، وتقصير الثياب، والحجاب.. ونحو ذلك، ويعتبرونها من النوافل والقشور التي لا أهمية لها كبرى ولا اعتبار، معترضين على من يأمرهم بذلك ببعض النصوص، كقوله صلى الله عليه وسلم: “إنما الأعمال بالنيات”، وقوله: “إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم”.
وجهلوا وتجاهلوا أن الآمر بذلك كله ظاهره وباطنه هو الله الحكيم الخبير، وأن الدّين ليس فيه لباب وقشور، بل كله لباب، كله دين تعبدنا الله به، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: “هذا جبريل أتاكم ليعلمكم دينكم”، فعلمنا مراتب الدين الثلاثة التي تشمل العبادات القلبية والطاعات البدنية.
عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم” البخاري ومسلم، وفي رواية “أقيموا صفوفكم أو لخالفَنَّ الله بين قلوبكم” (أبو داود وابن حبان انظر صحيح الجامع 1191)، فدلَّ هذا الحديث دلالة بينة على العلاقة الوثيقة بين الظاهر والباطن وأثر كل واحد منهما في الآخر وأنه ليس في الدين قشر ولباب.
أما قوله عليه الصلاة والسلام: “إنما الأعمال بالنيات” فيدل على أثر النية في الأعمال التي تعم الظاهر والباطن، ولم يشر الحديث إلى إلغاءها فتأمل.
أما قوله: “إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم” عند مسلم في صحيحه بهذا اللفظ، فلا يدل إلا على أن نظر الله أصالة في قلوب العباد، فأين دلالته على عدم أهمية أعمال الظاهر.
هذا على أن ثمة رواية لهذا الحديث عند مسلم كذلك قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم”.
والواحد منا يسأل ربه جل وعلا في كل صلاة هدايته الصراط المستقيم هذا الأخير الذي يتكون من أعمال ظاهرة وباطنة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مبيناً هذا: “ثم الصراط المستقيم هو أمور باطنة في القلب، من اعتقادات وإرادات وغير ذلك، وأمور ظاهرة من أقوال وأفعال، قد تكون عبادات، وقد تكون عادات في الطعام، واللباس، والنكاح، والمسكن، والاجتماع، والافتراق، والسفر، والإقامة.
وهذه الأمور الظاهرة والباطنة بينهما ارتباط ومناسبة، فما يقوم بالقلب من الشعور والحال يوجب أموراً ظاهرة، وما يقوم بالظاهر من سائر الأعمال يوجب للقلب شعوراً وأحوالاً “. الاقتضاء 27، مختصره.
فالإسلام يتكون من أعمال القلوب والجوارح، من عقائد، وعبادات، ومعاملات، وسلوك، فالظاهر عنوان الباطن.
وكيف يستهين المرء بشيء من الدين بدعوى أنه ظاهر لا أهمية له وقد غفر الله لبغي من بني إسرائيل سقت كلباً كان يأكل الثرى من العطش، فشكر الله لها ذلك وتجاوز عنها وأدخلها الجنة كما في الحديث الصحيح.
ودخلت امرأة النار في هرة ربطتها حتى ماتت، لم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض كما صح بذلك الخبر.
نعم هناك أمور مهمة وأخرى أهم في الدين، فالإيمان كما في الحديث الصحيح شعب وأقسام: “أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان”، ولكن لا تنافي بين هذا وذاك.
وبَلغت الجرأة ببعض المستخفين بالهدي النبوي أن زعموا أن كثيراً من هذه المظاهر الإسلامية، نحو إعفاء اللحى، وقص الشوارب، والنهي عن الإسبال، وما شابهها هي من العادات التي كانت للعرب في جاهليتهم، وما علموا أنها من بقايا ملة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وحاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون مبعوثاً لإحياء العادات الجاهلية.
قال عليه الصلاة والسلام: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق” وفي رواية “لأتمم صالح الأخلاق” صحيح الجامع.
ومن العجيب الذي يدمي القلب أن تجد المسلم يقلد بعماية الشرق والغرب في تقاليدهم وعاداتهم وأزيائهم معتزا بذلك، وفي الوقت نفسه نجده مستنكفا عما ورد في دينه من مظاهر إسلامية وأعمال شرعية تزيد في الإيمان، وينال بها الأجر من الرحمن.
مع أن الواجب أن يفخر المسلم بدينه، وأن يعتز بإسلامه، وأن يترفع عن تقليد غير المسلمين والتشبه بهم.
هذا ولو لم يكن في التمسك بأحكام الدين ظاهره وباطنه إلا غيض الأعداء لكفى.