من مميزات منهج السلف نبذ علم الكلام -الفلسفة- نور الدين درواش

لقد أتى على المسلمين زمان كانوا يتلقون فيه العقيدة من القرآن والسنة فيثبتون ما أثبتته نصوصهما وينفون ما نفته، إنه زمان النبوة الذي كان الصحابة يتلقون فيه أمور الاعتقاد غضة طرية من في صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام.
ثم جاء زمان زهد أهله في الطريقة الشرعية، والسنة المحمدية، والمنهجية السلفية، وتيمموا كتب الفلسفة اليونانية فترجموها للعربية ونشروها في البرية، ولم يكتفوا بذلك، بل عمدوا إلى إقحامها في علم العقيدة كالإيمان بالله وأسمائه وصفاته والإيمان بالقدر.. ومعلوم أنه “لا يدخل في وجوه الاعتبار -كما يقول الشاطبي رحمه الله- علوم الفلسفة التي لا عهد للعرب بها، ولا يليق بالأميين الذين بعث فيهم النبي الأمي صلى الله عليه وسلم بملة سهلة سمحة. والفلسفة -على فرض أنها جائزة الطلب- صعبة المأخذ، وعرة المسلك، بعيدة الملتمس، لا يليق الخطاب بتعلمها كي تُتَعرف آيات الله ودلائل توحيده للعرب الناشئين في محض الأمية فكيف وهي مذمومة على ألسنة أهل الشريعة..” الموافقات1/41.
وقد “كان الإمام مالك رحمه الله -كما قال أبو طالب المكي- أبعد الناس عن مذاهب المتكلمين وأشدهم نقضا للعراقيين، وألزمهم لسنة السالفين من الصحابة والتابعين” ترتيب المدارك.
قال أشهب بن عبد العزيز: “سمعت مالك بن أنس يقول: إياكم والبدع، قيل: يا أبا عبد الله، ما البدع؟ قال: أهل البدع الذين يتكلمون في أسمائه وصفاته وكلامه وعلمه وقُدرته، ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون” (عقيدة السلف أصحاب الحديث، لأبي عثمان لصابوني).
فمن أعظم أصول الدعوة السلفية الاكتفاءُ بما كان عليه سلف هذه الأمة في أصول الدين فلا زيادة على ما كانوا عليه ولا نقصان، وكما قال ابن مسعود: “اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كُفيتم”.
قال الشافعي: سُئل مالك عن الكلام والتوحيد، فقال: “محال أن نَظُنَّ بأن النبي صلى الله عليه وسلم علم أمته الاستنجاء ولم يعلمهم التوحيد” سير أعلام النبلاء للذهبي.
فما أعظم هذا الفهم.. فهل يُظن بمن بين للأمة أحكام دقائق الشريعة العملية وجزئياتها وبين أحكاهما من وجوب واستحباب وكراهة وتحريم وإباحة، -ومنها الاستنجاء- أن يغفل ما هو أعظم من ذلك وأجل؟ مما يتعلق بالله وأسمائه وصفاته وعلوه واستوائه على عرشه؟
قال عبد الرحمن بن مهدي: دخلت عند مالك وعنده رجل يسأله عن القرآن، فقال: لعلك من أصحاب عمرو بن عبيد، لعن الله عمرا فإنه ابتدع هذه البدع من الكلام، ولو كان الكلام علما لتكلم فيه الصحابة والتابعون، كما تكلموا في الأحكام والشرائع، ولكنه باطل يدل على باطل” شرح السنة للبغوي.
قال مصعب بن عبد الله الزبيري: كان مالك بن أنس يقول: الكلام في الدين أكرهه، ولم يزل أهل بلدنا [يعني المدينة] يكرهونه وينهون عنه نحو الكلام في رأي جهم [إمام الجهمية وكل المعطلة] والقدر وكل ما أشبه ذلك، ولا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل، فأما الكلام في دين الله وفي الله عز وجل، فالسكوت أحب إلي، لأني رأيت أهل بلدنا ينهون عن الكلام في الدين إلا فيما تحته عمل” جامع البيان لابن عبد البر.
وهذا تلميذُهُ الإمامُ الشافعي يقول: “لأن يَبتلى الله المرء بكل ذنب نهى الله عنه ما عدا الشرك خير له من الكلام” رواه ابن بطة واللالكائي.
وقال: “ما تردى أحد في الكلام فأفلح” ابن بطة واللالكائي.
بل قال: “حُكمي على أهل الكلام أن يُضربوا بالجريد ويُحملوا على الإبل ويطاف بهم في العشائر والقبائل وينادى عليهم هذا جزاء من ترك السنة وأقبل على علم الكلام” مناقب الشافعي للبيهقي.
قال الحافظ أبو عمر ابن عبد البر: “أجمع أهل الفقه والآثار من جميع الأمصار أن أهل الكلام أهل بدع وزيغ لا يعدون عند الجميع في جميع الأمصار في طبقات العلماء وإنما العلماء أهل الأثر، والتفقه فيه، ويتفاضلون فيه بالإتقان والميز” والفهم جامع بيان العلم2/95-96.
ولا أدل على فساد علم الكلام وأن مؤداه الشك والحيرة وانطماس الحق وضياعه، مما أقر به من دخل فيه من الندم والحسرة فهذا الرازي يقول في آخر حياته ينشد:
نهاية إقدام العقول عقــــال *** وأكثر سعي العالمين ضـلال
وأرواحنـا في وحشة من جسومنا *** وغــاية دنيانا أذى ووبال
ولم نستفـد من بحثنا طول عمرنا *** سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
ثم قال: “لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلا ولا تروي غليلا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن.. ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *