السلفية وسطية أم تطرف..؟ الحلقة الثامنة حمّاد القباج نماذج لانحرافات: النموذج الثالث: الفتانون (ج3)

وقفنا في الحلقة الماضية على أهم أسباب هذا النوع من الانحراف الذي جنح إليه بعض المنتسبين إلى السلفية؛ وأخصص هذه الحلقة لبيان سبيل السلامة منه بإذن الله تعالى:

ويرجع في نظري إلى أمرين أساسين:
– الأول: طلب العلم النافع وفقه أصول السلفية.
– الثاني: مجاهدة النفس للعمل بالعلم والتحلي بالأخلاق الكريمة.
وكلاهما يتم بلزوم غزر العلماء الذين رسخت قدمهم في السلفية؛ لا سيما الأموات منهم.
والمتأمل في سيرة أئمة السلفية المعاصرين ومواقفهم؛ كابن باز وابن عدود والألباني وتقي الدين الهلالي والعباد، يقف على سلامتهم من هذا الانحراف؛ وهذا شيخ مشايخنا العلامة تقي الدين الهلالي رحمه الله كان شديدا على أهل البدع وقويا في إنكار الشركيات والمنكرات، ومع ذلك لم يكن فتنة على إخوانه العلماء وطلبة العلم، بل كان يتعاون مع بعض المخالفين على الخير..
فعلى المسلم المتبع أن يلزم غزر هؤلاء، ولا يلتفت إلى شبهات الصغار المتعالمين، ولا إلى زلات بعض الكبار الذين كنا نود أن لو لم يكونوا مفاتيح لهذه الشرور، ولكن لا عصمة لأحد، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ..
والحقيقة أن دور العلماء في دفع هذه الفتن هام جدا، وانظر كيف كان توجيه النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه حاسما للنزاع ورافعا للفتنة ..
وهكذا لما كان الأئمة الثلاثة: ابن باز والألباني وابن عثيمين أحياء يوجهون السلفيين ويرشدونهم؛ لم تتفش بينهم هذه الفتنة، وإنما حصل ذلك بعد وفاتهم ..
وفيما يلي أسلط الضوء على منهاج أحد أولئك الأئمة في هذا الباب (الرد على المخالف)؛ وهو العلامة الإمام عبد العزيز بن باز رحمه الله ، لنقف على الفرق بين المسلك السلفي، والمسلك المنحرف عنه:
التثبت والتأني:
“كان الشيخ من أثبت الناس فيما يقول ويخبر، ومن أكثرهم تحريا، لا سيما حين يكون الكلام متعلقا بنقد أو رد على مخالف، فكان لا يشرع في كتابة رد، أو انتقاد قول، إلا بعد التثبت والتحقق ..
ولم يعهد عنه عجلة ولا تسرع، بل كان معروفا بالرفق والأناة مع الغيرة على دين الله” .
ولذلك لم يعرف منه ما عرف بعد ذلك عن أصحاب الهواتف؛ الذين أفسدوا في الأرض باسم الدعوة والتحذير من أهل البدع!
الرفق واللين هو الأصل:
كان الشيخ رحمه الله يرى أن الأصل في الدعوة إلى الله البدء بالرفق وأسهل الطرق، خصوصا عند انتشار الجهل، وغلبة الأهواء، وقلة الناصحين، وهذا الذي أمر الله به رسله كما قال لموسى وهارون عليهما السلام: {فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى}[طه: 44].
وهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته، وهو القائل: “إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه” .
قال الشيخ ابن باز: “.. فإن صاحب البدع والمعصية كالمريض يؤخذ بالرفق والحكمة” .
وكان الشيخ يرى أن الرفق واللين مطلوب ابتداء حتى فيما يتعلق بالأمور الشركية والأمور البدعية، مع عظم الخطر فيها؛ لأن المقصد هداية الناس وإرشادهم إلى طريق الخير والحق، وقد تكون البدعة متأصلة في نفوس أصحابها قد عاشوا عليها دهورا، مما يجعل من الصعب قلعها إلا بالأسلوب الحكيم الذي يبدأ بالبيان والإرشاد والرفق .
ومن الأمثلة؛ رفقه بشيخ الأزهر عبد الحليم محمود الذي أوصى أن يدفن في مسجده!
فقد نصحه الشيخ مخاطبا إياه بقوله: “حضرة الأخ المكرم سماحة الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر وفقه الله ونصر به الحق”.
وقال: “وقد كدرني هذا الخبر كثيرا واستغربت حصوله من سماحتكم” .
ومن منهجه رحمه الله:
ترك اللمز والكلام السيئ وسوء الظن، واستخدام العبارات التي تدعو إلى الاستجابة، والدعاء للمخالف بالهداية، وترك التعنيف في العبارة.
قال: “وهذا كله لا يمنع من نصيحة من أخطأ من أهل العلم أو الدعاة إلى الله في شيء من عمله أو دعوته أو سيرته، بل يجب أن يوجه إلى الخير ويرشد إلى الحق بأسلوب حسن، لا باللمز وسوء الظن والأسلوب العنيف؛ فإن ذلك ينفر من الحق أكثر مما يدعو إليه” .

ومن منهجه رحمه الله:
التفريق في الرد والإنكار على المخطئين بين من كان على أصول أهل السنة وبين من لم يكن كذلك.
قال: “شاع في هذا العصر أن كثيرا من المنتسبين إلى العلم والدعوة إلى الخير يقعون في أعراض كثير من إخوانهم الدعاة المشهورين، ويتكلمون في أعراض طلبة العلم والدعاة والمحاضرين. يفعلون ذلك سرا في مجالسهم. وربما سجلوه في أشرطة تنشر على الناس، وقد يفعلونه علانية في محاضرات عامة في المساجد.
وهذا المسلك مخالف لما أمر الله به ورسوله من جهات عديدة منها:
أولا: أنه تعد على حقوق الناس من المسلمين، بل من خاصة الناس من طلبة العلم والدعاة الذين بذلوا وسعهم في توعية الناس وإرشادهم، وتصحيح عقائدهم ومناهجهم، واجتهدوا في تنظيم الدروس والمحاضرات وتأليف الكتب النافعة.
ثانيا: أنه تفريق لوحدة المسلمين وتمزيق لصفهم، وهم أحوج ما يكونون إلى الوحدة والبعد عن الشتات والفرقة، وكثرة القيل والقال فيما بينهم، خاصة وأن الدعاة الذين نيل منهم هم من أهل السنة والجماعة المعروفين بمحاربة البدع والخرافات، والوقوف في وجه الداعية إليها، وكشف خططهم وألاعيبهم. ولا نرى مصلحة في مثل هذا العمل إلا للأعداء المتربصين من أهل الكفر والنفاق أو من أهل البدع والضلال.
ثالثا: أن هذا العمل فيه مظاهرة ومعاونة لمغرضين من العلمانيين والمستغربين وغيرهم من الملاحدة الذين اشتهر عنهم الوقعية في الدعاة، والكذب عليهم، والتحريض ضدهم فيما كتبوه وسجلوه، وليس من حق الأخوة الإسلامية أن يعين هؤلاء المتعجلون أعداءهم على إخوانهم من طلبة العلم والدعاة وغيرهم”اهـ .

الأصل في الرد على المخالفين أن يكون على الأوصاف دون الأشخاص.
قال الشيخ رحمه الله: “نصيحتي لإخواني العلماء والدعاة أن يكون نقدهم لإخوانهم فيما يصدر من مقالات أو ندوات أو محاضرات؛ أن يكون نقدا بناءا بعيدا عن التجريح وتسمية الأشخاص؛ لأن هذا قد يسبب شحناء وعداوة بين الجميع.
وكان من عادة النبي صلى الله عليه وسلم وطريقته إذا بلغه عن بعض أصحابه شيئا لا يوافق الشرع نبه على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: “ما بال أقوام قالوا كذا وكذا”، ثم يبين الأمر الشرعي عليه الصلاة والسلام.
قال: “..فمقصودي هو ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، أي: “أن التنبيه يكون بمثل هذا الكلام، بعض الناس قال كذا، وبعض الناس يقول كذا، والمشروع كذا، والواجب كذا؛ فيكون الانتقاد من غير تجريح لأحد معين، ولكن من باب بيان الأمر الشرعي، حتى تبقى المودة والمحبة بين الإخوان وبين الدعاة وبين العلماء.
فنصيحتي للجميع أن يكون التخاطب فيما يتعلق بالنصيحة والنقد من طريق الإبهام لا من طريق التعيين؛ إذ المقصود التنبيه على الخطأ والغلط وما ينبغي من بيان الصواب والحق من دون حاجة إلى تجريح فلان وفلان”اهـ .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *