ذكر الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله تعالى في باب التعالم في الفقهيات:
خامسا وأما في الفقهيات:علم أحكام أفعال العباد في النشئتين ومبدأ السعادتين فهو باب ولج معه صنوف من البشر فقيه مترخص وآخر أخذ بالشاذ والقول المهجور، وثالث لا يدري اصطلاح الفقيه في عبارته، ورابع فقاهته بالتشهي وجماع ذلك في أمرين: متعالم في الفقه لايدريه فهذا غايته الجهل.
وتلميذ من “مدرسة الفقه العصرانية” موئل الإفراز للزيغ بصلابة جبين، وهذا والله أمر الأمرين؛ لأنه دخل هذه المدرسة أناس شهروا فنفخ في بوقهم الكافرون حتى نفذوا عن طريقهم بإنزال الشرع المبدل والشرع المؤول محلا للشرع المنزل من عدة طرق رتبها القاسطون.
قال ابو العلاء:
وكم من فقيه خابطٍ في ضلالةٍ وحجتُه فيها الكتابُ المنـزَّل
وهذا تبان لبعضها:
1- دعوى تغير الفتوى بتغير الزمان: وقد بسطت في “فائت الفقيه” القول فيها في مبحث: “بساط الحال وأثره في الأحكام” بما خلاصته:
أن هذه قاعدة صورية لا حقيقية؛ إذ أن جميع من يذكرها من الفقهاء الماتنين والشارحين، يقيدونها بخصوص تغير الأعراف.
وابن القيم رحمه الله تعالى توسع في ضرب المثال لها (إعلام الموقعين 3/14-107)، بما لا يسلم له, لأنها من هذا الباب أو من باب تخصيص العام بنص مثله، أو لتغيير النيات وهكذا.
ولهذا فإنه في موضع آخر (إغاثة اللهفان) أتى بما يقيد هذا الإطلاق إذ جعل الأحكام على مجموعتين:
– أحكام ذات نص فلا ينسحب عليها هذا التأصيل.
– وأحكام اجتهادية تتغير بتغير الأعراف؛ وهذا ما تتغير به الفتوى بتغير الزمان والأحوال..
والعصرانيون دخلوا من هذا التقعيد الصوري إلى أوسع الأبواب، فأخضعوا النصوص ذات الدلالة القطعية كآيات الحدود في السرقة والزنا ونحوهما بإيقاف إقامة الحدود لتغير الزمان، وهكذا مما نهايته انسلاخ من الشرع تحت سُرَادِق موهوم.
2- كلمة حق يراد بها باطل؛ وهي الدعوى إلى فتح أبواب الاجتهاد وهذه من أعظم مداخل الاستعمار للإقتراب بالإسلام من أفانين المدينة الحاضرة.
3- التلفيق المذهبي؛ بالشذوذ والترخيص بمعنى التقاط رخص المذاهب والأقوال المهجورة لتلاقيها مع “النظرة التبريرية” لواقع المسلمين اليوم.
4- الدعوى إلى “تقنين الشريعة” ووقف تحكيمها بدعوى عدم تقنينها، وهي دعوى تعلّلية “للمماطلة في تحكيمها” مكشوفة الغاية: الرفض الأبدي لتحكيم الشريعة من حال مدعي عدم التقنين. وفي “فقه النوازل” أفردت هذه النازلة بالبحث، وبينت غلط من غفل عن “الإلزام”.
5- التأويل لنصوص الاحكام، وهو في البطلان كظاهرة التأويل لنصوص الأسماء والصفات، ومفاده: ليّ أعناق النصوص عن معانيها، وتحميلها مالا تحتمله، وحملها على الوجوه الباردة، والآراء المتعسفة المنكودة بما لا تطيقه لغة العرب في سنن كلامها ومناحي لسانها.
6- مقارنة الإسلام بغيره من القوانين والأديان الباطلة: وهذه فتنة ترقت إلى رؤوس أساتذة الجامعات، وتسربت منهم إلى طلابها، لإظهار فضل الشريعة زعموا!
فانظر مئات الرسائل الجامعية، والكتب الحرة بمقارناتها التي يظهر في العديد منها: ضعف موقف الكاتب -لقصوره- من بيان ظهور حكم الإسلام في مسألة ما على الدين كله، وهذا من أعظم الأبواب التي يدخل بها الداخل على الإسلام والمسلمين مع ما فيه من ترقيق الديانات، وكسر حاجز النفرة من الكفر والكافرين..
“وكان الإمام الأحمد رحمه الله تعالى يكره التصدي لمجادلة المبتدعة، حكى عنه الغزالي في كتاب “المنقد” (المنقذ من الضلال) أنه أنكر على الحارث المحاسبي، تصنيفه في الرد على المعتزلة؟ فقال الحارث: الرد على البدعة فرض، فقال أحمد: نعم لكن حكيت شبهتهم أولا ثم أجبت عنها، فلا يؤمن أن يطالع الشبهة من تعلق ذلك بفهمه؛ ولا يلتفت إلى الجواب، أو ينظر إلى جواب؛ ولا يفهم كنهه.
قال الغزالي: وما ذكره أحمد حقّ، ولكن في شبهة لم تنتشر ولم تشتهر، فأما إذا انتشرت فالجواب عنها واجب، ولا يمكن الجواب عنها إلا بعد الحكاية. اهـ.
7- التردد بين إثبات القياس ونفيه: والاتكاء في نفيه على مذهب الظاهرية, وانتصار ابن حزم له وهو مذهب الرافض.
ومن العجيب أن ابن حزم وهو يشتد على مخالفيه, هو في حقيقته يأخذ بالقياس في مقامين:
الأول: في الاعتقاد ومن نظر في كتابه الملل علم ذلك.
الثاني: في كتابه المحلى يلزم مخالفيه في مواضع بالقياس, ومعلوم في آداب البحث والمناظرة وأصول الجدل، أنه لا يلزم أحد المتاظرين صاحبه إلا بما يعتقده ويقول به, لأن الغرض الوصول إلى الحق لا الظهور على الخصم.
8- ومن أبلده مسلك “حشوية الفروع”، وهم الذين يخرجون الفروع على الفروع المختلف فيها, لا على القواعد والأصول؛ وإذا أمعنت النظر في عدد من أبحاث طلاب العصر وجدتهم كذلك؛ فإذا وجد أحدهم تفريعا فقهيا مختلفا فيه, أخذ ينظر النازلة عليه, ويلحق حكمها بحكمه مشتدا فرحه, وهو بناء على أساس هار, وههنا خبيئة مرذولة في مذهب الرافضة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: قال الشعبي عنهم: “يأخذون بأعجاز لاصدور لها” أي يأخذون بفروع لا أصول لها. اهــ