فـي ظــلال آيــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
قال تعالى: ﴿وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً﴾ (100) سورة النساء.
قال السعديُّ رحمه الله في تفسيره (1/196): “هذا في بيان الحث على الهجرة والترغيب، وبيان ما فيها من المصالح، فوعد الصادق في وعده أن من هاجر في سبيله ابتغاء مرضاته، أنه يجد مراغما في الأرض وسعة، فالمراغم مشتمل على مصالح الدين، والسعة على مصالح الدنيا.
وذلك أن كثيرًا من الناس يتوهم أن في الهجرة شتاتًا بعد الألفة، وفقرًا بعد الغنى، وذلا بعد العز، وشدة بعد الرخاء. والأمر ليس كذلك…” اهـ.
فالهجرة لها معان كثيرة؛ وقد توسع العلماء في بيانها وتفصيلها، وقبل الخوض فيما إليه قصدت، أرى أنه يَجْمُل بكل مسلم أن يعلم أن الهجرة سُنَّة ماضية إلى يوم القيامة، وأن الرسل عليهم الصلاة والسلام هاجروا وأخرجوا من ديارهم هم وأتباعهم، قال ربي عن الخليل عليه السلام: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (العنكبوت:26). وقال: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} (الصافات:99). وقال عن الكليم عليه السلام: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (القصص:21). وقال عن الرحمة المهداة عليه الصلاة السلام: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} (الأنفال:30).
فحين يشتد البلاء وتعظم المحنة يأذن الله لرسله في الخروج؛ ويعدهم النصر والتمكين. وهذا من أعظم الدروس التي ينبغي استخلاصها، فليس غرضي هنا أن أسرد قصة الهجرة كما وردت في السيرة، وكما قد يظن كثير من المسلمين أنهم إذا وقفوا على أحداثها وحفظوا وقائعها أنهم قد أدوا كل ما يلزمهم؛ فإن الأمر أعظم من ذلك وأعمق، فنتعلم من الهجرة اتباع أمر الله ومخالفة الشيطان الذي قعد لابن آدم بأطرقه كلها فعصاه وأسلم وهاجر وجاهد.
ونتعلم منها التضحية في أجلى صورها؛ فإن من أشد الابتلاء أن يخرج المرء من بلده وأن يهجر ملاعب صباه، ولا يتم ذلك إلا لصادق الإيمان عظيم التوكل؛ فقد التفت النبي عليه الصلاة السلام إلى مكة مودعا، فقال: «ما أطيبك من بلد وأحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنتُ غيركِ».
ونتعلم منها الفداء في أروع صنوفه وأشكاله؛ فكيف يقبل غلام يستقبل الدنيا مثل علي رضي الله عنه أن يبيت على فراش النبي عليه الصلاة السلام وهو يعلم أن المشركين أجمعوا على قتله لولا ما حشي به قلبه من إيمان ويقين.
ونتعلم منها الصحبة الصادقة في المنشط والمكره وفي العسر واليسر حيث رغب الصِّدِّيق رضي الله عنه في الرفقة وهو يدرك حجم الطلب وكيد العدو.
ونتعلم منها الصدق والإخلاص؛ «..ومَن كانتْ هجرتُه لدنيا يُصيبها أو امرأة يَنكحها، فهجرتُه إلى ما هاجَر إليه».
ونتعلم منها الحيطة والأخذ بالأسباب؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم حين عزم على الهجرة أتى صاحِبَه أبا بكر رضي الله عنه في وقت لم يكن يأتيه فيه تعميةً على العيون، وأمره بإخراج مَنْ عِنْدَه حفاظا على الخبر واستعانة على إنجاح الأمر بالكتمان، واستعان بعبد الله بن أريقط لخبرته بالطريق، وهو مشرك لكنه قد أمن غدره، وأمر عامر بن فهيرة أن يسوق غنمه لتعمي أثار مسيرهما، وأقام في الغار مدةً حتى هدأ الطلب.. إلى غير ذلك من الأسباب التي لو تأملها المسلم لعلم أنه لا يستغني عن حسن التدبير والسعي في إتقان الأسباب.
ونتعلم منها حسن التوكل على الله واستشعار مَعِيَّتِه، وأن المرء مهما حرص على النجاة من عدوه فإنه لا حول له ولا قوة إلا بالله؛ ألم تسمع قوله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما».
وهناك هجرة أخرى وهي هجرة المعاصي والآثام؛ قال تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} (5) سورة المدثر. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «..والمهاجر مَن هجر ما نَهى الله عنه». متفق عليه.
قال العزّ بن عبد السّلام في (شجرة المعارف) (ص:383) نقلا عن (نضرة النعيم) (8/3565): “الهجرة هجرتان: هجرة الأوطان، وهجرة الإثم والعدوان. وأفضلهما هجرة الإثم والعدوان. لما فيها من إرضاء الرّحمن، وإرغام النّفس والشّيطان”. اهـ.
فاللهم وفقنا لفعل الطاعات واجتناب المنكرات وتصحيح النيات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *