أما حالهم مع العوام فقد كان همهم ولا يزال إلى يومنا هذا نجاة المسلمين من عذاب النار والفوز بالجنة والتنعم مع المؤمنين الأخيار. قال يحيي بن معاذ رضي الله عنه: “العلماء أرحم بأمة محمد -صلى الله عليه وسلم- من آبائهم وأمهاتهم” قيل: وكيف ذلك؟ قال لأن آباءهم وأمهاتهم يحفظونهم من نار الدنيا وهم يحفظونهم من نار الآخرة”.
فما من عالم إلا وتراه يدعو بالليل والنهار، هل من متعظ فيتعظ؟ هل من نائم فيستيقظ؟ هل من غافل فينتبه؟ لا يبخلون بوقتهم على طلاب العلم فيعقدون المجالس والحلق في المساجد والمدارس من أجل نشر نور الله في الأرض ويبقى دين الله تعالى ظاهرا يحمله من كل خلف عدوله.
أما في أيامنا الأخيرة فهاهم العلماء في كل ميادين الحياة في معارك الجهاد، في المساجد ودور القرآن، في المستشفيات والجامعات دون أن ننسى سلاح الإعلام، فتراهم أيضا في الفضائيات يكدون ويجدون، فمنهم من تصدى لافتراءات الديانات الأخرى، ومنهم من ناظر العلماء والباحثين، ومنهم من تصدى للأنظمة الظالمة، ومنهم من سعى جهده لتنقية السنة النبوية من الشوائب، ومنهم من جاهد من أجل محاربة الشرك ونشر التوحيد، ومنهم من لم يدع فرصة تمرّ إلا وأدب وعلم وربى طلبة العلم في كل مكان، ومنهم من مازال يجاهد ويثابر إلى يومنا هذا من أجل نشر الدعوة وترشيد الصحوة، ودحض الخطط الصهيونية، والافتراءات المسيحية، وجمع شمل الأمة المحمدية، وتوجيه النصح لقادة الدول الاسلامية و…
فإن أردنا أن نحصي أو أن نعد فضائل العلماء قديما وحديثا فهي مناقب تند عن الحصر والاستقصاء وتستعصي على العد والإحصاء… لن يستطيع منصف ولن يتمكن أحد ألبتة أن يجازيهم على إحسانهم إلا الله سبحانه وتعالى . فهؤلاء هم الذين تحلوا بصفة العلم والعمل؛ والتقى والهدى؛ والزهد والجرأة في الحق؛ والقوة في التمسك بالعدل والمحافظة على حدود الشرع، وحمل الدعوة لإقامة شرع الله في أرض الله، قال تعالى : {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} .
فنصر الله بهم الدين، وطوع لهم قلوب الناس أجمعين، فسار خلفهم جمع غفير يأتمرون بأمرهم ويلتزمون بمشورتهم ويحمونهم بصدورهم.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع
واليوم وللأسف اختلطت الأحوال على الناس حتى ساءت أخلاق المسلمين فقال الناس: هذا من سكوت العلماء، وانتهكت الحرمات وفعلت المحرمات، فصاح الناس هذا من سكوت العلماء، وتركت الفرائض والواجبات، فقالت العامة: هذا من غفلة العلماء، وأصبح الناس لا يبالون بالحرام؛ فقالت العامة هذا من تقاعس العلماء الذين باعوا العلم وشرع الله بالمناصب والمكرمات، من طرف ذوي المال و…، فأصبحوا لاهين عن الواجب المنوط بهم والأمانة التي حملهم الله إياها؛ والميثاق الذي أخذه الله عليهم عز وجل بقوله : {وَإِذْ أَخَذَ اللَّـهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} . فأصبحوا وسيلة للعباد ونسوا واجب ربا العباد؛ فبرروا الجور والتجاوزات، وكرسوا الظلم والظلمات فأصدروا الفتاوى التي تضرب مقاصد الإسلام، بل وتخدم أعدَاءه، فبثت شبهات أهل الشبه في قلوب العباد فظهر الفساد في البلاد بما كسبت أيدي ساداة العباد…
فغصت القنوات بعلماء ودعاة ومشايخ خذلوا الأمة واتخذوا القرآن الكريم عضين، فقالوا بما يشتهون أو بما يملى عليهم من طرف من لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة. فبدل أن يتناصروا تباغضوا؛ واغتاب بعضهم بعضا وانتقص من قدر أخيه، بل وحرم كلامه على المسلمين؛ سماعه أو قراءته أو…
فظهر جيل من العلماء والدعاة تاهوا بين هوى السلطان وضغط العوام. وتوهموا أن المرجعية تشترى بوظيفة أو شهادة أو ظهور بقناة.
فاحتارت الأمة بين الأخذ بقول فلان وعلان، وتاه طلبة العلم بين افتراءات هذا العالم وأقوال آخر… فكان الحال الذي نراه وللأسف اليوم من فتن تعرض على القلوب عرض الحصير، وتقع على الأنفس وقع القطر…
فهذا يبدع ويفسق، وهذا يكفر ويخون، وهذا يبجل ويقدس، وآخر يكتم ويتقاعس، وهذا يفتري ويبهت، وآخر يزور ويسوغ… حتى ظهرت ألقاب جديدة وأوصاف عديدة لم تكن عند سلفنا معلومة ولا موصوفة؛ وهؤلاء علماء الزور، وعلماء الفنادق، وعلماء الخنادق، وعلماء القصور، وعلماء الجحور…
والحال هذا لا ينسينا أمثال الصادقين من المخلصين الذين شروا أنفسهم ابتغاء مرضاة الله، وصدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم الشهيد، والسجين، والمبعد والمطرود…الذي لا يحق لأحد من الناس عالما كان أم جاهلا رئيسا كان أم مرؤوسا أن يطعن فيهم، أو يقدح في سيرتهم، أو يشك في إخلاصهم، لأنه من المعلوم أنه لا يستوي ما حرمه الله من جهة واحدة وما حرمه من جهات متعددة، فالجرم يعظم بتعدد جهات الانتهاك، ويعظم تبعا لذلك الإثم، ويتضاعف العقاب، فظلم النفس بالمعاصي حرام في كل زمان ومكان، لكنه أشد إذا وقع في الأشهر الحرم، ولذلك قال تعالى: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} ولهذا نظائر في السنة النبوية الشريفة كثير.