كثيرا ما يغفل الناس عن مغبة الكلام، فهناك من يطلق لسانه بالكلام دونما نظر أو مبالاة في آثاره أو أبعاده.
فتجده يطلق القول على عواهنه غير عابئ بما يجره عليه من بلاء أو شقاء، فلربما كان سببا في مقتله، ولربما كان سببا في إذكاء عداوة، أو إشعال حرب، أو نحو ذلك.
يقول تعالى: “لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً”.
قال السعدي رحمه الله: “أي: لا خير في كثير مما يتناجى به الناس ويتخاطبون، وإذا لم يكن فيه خير فإما مالا فائدة فيه كفضول الكلام المباح، وإما شرّ ومضرة محضة كالكلام المحرم بجميع أنواعه” تيسير الكريم الرحمن.
قال أكثم بن صيفي: “مقتل الرجل بين فكيه” المحاسن والمساوئ.
والعرب تقول في أمثالها: “إياك وأن يضرب لسانك عنقك”، أي: إياك أن تلفظ بما فيه هلاكك، الأمثال لأبلي عبيد.
وقال علي رضي الله عنه: “اللسان معيار أطاشه الجهل وأرجحه العقل” أدب الدنيا والدين.
وقال بعضهم: “اعقل لسانك إلا عن حق توضحه، أو باطل تدحضه، أو نعمت تذكرها” نفسه.
فالواجب إذن على العاقل أن يلزم الصمت إلى أن يلزمه الكلام، فما أكثر من ندم إذا نطق، وأقل من يندم إذا سكت وأطول الناس شقاء وأعظمهم بلاء من ابتلي بلسان مطلق، وفؤاد مطبق.
قال الأوزاعي رحمه الله: “ما بلي احد في دينه بلاء أضر عليه من طلاقة لسانه” مختصر روضة العقلاء.
وقال عمر رضي الله عنه للأحنف بن قيس: “يا أحنف، من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه قلَّ حياؤه ومن قلَّ حياؤه قلَّ ورعه، ومن قلَّ ورعه مات قلبه” نفسه.
فالبصير هو الذي يستشعر مسؤولية الكلمة ويفكر قبل أن يجيب، ويزن كلامه حتى لا يقع فيما لا تحمد عقباه، فيندم ولات ساعة مندم.
يقول ابن القيم رحمه الله: “ومن العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والزنا والسرقة وشرب الخمر ومن النظر المحرم وغير ذلك ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه، حتى يرى الرجل يشار إليه بالدين والزهد والعبادة وهو يتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يلقي لها بالا، ينزل بالكلمة الواحدة بين المشرق والمغرب، وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات ولا يبالي” الجواب الكافي.
وعليه فينبغي لمن أراد النطق بكلمة أو كلام أن يتدبره في نفسه قبل نطقه، فإن ظهرت مصلحته تكلم وإلا أمسك.
قال عمر رضي الله عنه: “رحم الله امرأ أمسك فضل القول وقدم فضل العمل” عيون الأخبار 1/380.
وقال كعب الأحبار رضي الله عنه: “العافية عشرة أجزاء، تسعة منها في السكوت” مختصر روضة العقلاء.
وقال حماد بن زيد: سئل أيوب السختياني عن مسألة فسكت فقال الرجل: يا أبا بكر لم تفهم أعيد عليك؟ قال: فقال أيوب: قد فهمت، ولكني أفكر كيف أجيبك. المعرفة والتاريخ 2/138.
وقال شداد بن أوس: “ما تكلمت بكلمة منذ أسلمت إلا وأنا أخطمها وأزمها” مسند أحمد 4/123.
وقال ابن دقيق العيد: “ما تكلمت بكلمة ولا فعلت فعلا إلا أعددت لذلك جوابا بين يدي الله تعالى” فتح المغيث 1/93.
وفي اللسان كما يقول ابن القيم رحمه الله: “آفتان عظيمتان إن خلص العبد من إحداهما لم يخلص من الأخرى: آفة الكلام، وآفة السكوت، وقد يكون كل منهما أعظم إثما من الأخرى في وقتها، فالساكت عن الحق شيطان أخرس، عاص لله، مراء، مداهن، إذا لم يخف على نفسه، والمتكلم بالباطل شيطان ناطق، عاص لله، وأكثر الخلق منحرف في كلامه وسكوته” الجواب الكافي 112-113.
ومنه فمن أراد السلامة من الزلل -عموما- عند كلامه فيلزمه جملة من الشروط كشف عنها الإمام الماوردي رحمه الله حيث قال: “واعلم أن للكلام شروطا لا يسلم المتكلم من الزلل إلا بها ولا يعرى من النقص إلا بعد أن يستوفيها، وهي أربعة شروط:
فالشرط الأول: أن يكون الكلام لداع يدعوا إليه إما في اجتلاب نفع أو دفع ضرر.
والشرط الثاني: أن يأتي به في موضعه، ويتوخى به إصابة فرصته.
والشرط الثالث: أن يقتصر فيه على قدر الحاجة.
والشرط الرابع: أن يتخير اللفظ الذي يتكلم به” أدب الدنيا والدين 275.