مسألة تطبيق الشريعة تمييز ابن تيمية بين “إرادة الشعب” و”التدرج” (1)

التدرج في تطبيق الشريعة للمصلحة الراجحة أصل شرعي محكم مشهور، نص عليه كثير من أهل العلم، ومن المعاصرين -على سبيل المثال- الشيخ ابن عثيمين رحمه الله، حيث ألف رسالة مشهورة اسمها “منهاج أهل السنة في العقيدة والعمل”، وكانت من مؤلفات الشيخ التي كتبها بيده، لا إملاءً في دروسه، وعقد الشيخ في هذه الرسالة فصلاً سماه “طريقة أهل السنة في إصلاح المجتمع” ومما جاء في هذا الفصل قول الشيخ ابن عثيمين: “جاءت الشريعة الإسلامية بالتدرج في التشريع شيئاً فشيئاً، وهكذا المنكر لابد أن نأخذ الناس فيه بالمعالجة حتى يتم الأمر” [مجموع فتاوى ابن عثيمين، جمع فهد السليمان: 5/210].
وثمة موضع جميل بديع تحدث فيه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، مميزاً بين مسألتين بشكل واضح، حيث ميّز بين “إرادة الشعب” وبين “التدرج في إقامة الشرع للمصلحة الراجحة”.
يقول رحمه الله: “فليس حُسن النية بالرعية والإحسان إليهم أن يفعل ما يهوونه ويترك ما يكرهونه، فقد قال الله: {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن}، وقال تعالى للصحابة: {واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم}، وإنما الإحسان إليهم فعل ما ينفعهم في الدين والدنيا ولو كرهه من كرهه، لكن ينبغي له أن يرفق بهم فيما يكرهونه، ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “ما كان الرفق في شيء إلا زانه ولا كان العنف في شيء إلا شانه”، وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يقول: والله إني لأريد أن أخرج لهم المرة من الحق فأخاف أن ينفروا عنها، فاصبر حتى تجيء الحلوة من الدنيا فأخرجها معها فإذا نفروا لهذه سكنوا لهذه”. [مجموع الفتاوى: 28/364].
فتأمل كيف قرر قاعدة التدرج والرفق في التطبيق، لكنه في نفس الوقت قرر أن المناط في الحكم بالشرع ليس رغبة الشعب وعدم رغبتهم، فقال “ولو كرهه من كرهه”، ومن ألطف ما في عرضه هو استنباطه من النصين القرآنيين {لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم} وقوله تعالى {ولو اتبع الحق أهواءهم}، وهاتان الآيتان العظيمتان تقتلعان من الجذور نظرية إناطة الشرع بصناديق الاقتراع دون اضطرار.
فالصواب أن السيادة للشريعة لا للأمة، وأن سيادة الأمة تابعة وخاضعة لسيادة الشريعة، لا العكس كما يقرر أهل الأهواء، بل إن هذه المسألة من مسائل الإجماع التي لا يتصور الخلاف فيها.
وقد أخطأ في مسألة التدرج كثير ممن خاضوا في هذا الباب، ويمكن إجمال أوجه الخطأ في أربع نقاط، نقف عليها بالتفصيل في العدد المقبل بحول الله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *