قال تعالى: “وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُم الْمُتَّقُونَ” الزمر: 33.
فقد امتدح الله عز وجل القائل بالصدقِ والمصدقَ به “فعلى الإنسان أن يصدّق بالحق الذي يقوله غيرُه، كما يصدق بالحق الذي يقوله هو، ليس له أن يؤمن بمعنى آيةٍ استدل بها، ويردّ معنى آيةٍ استدل بها مُناظِرُه، ولا أن يقبل الحق من طائفةٍ، ويردُّه من طائفةٍ أخرى”درء تعارض العقل و النقل 8/404
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “وأهل السنة المحضة أَوْلى الطوائف بهذا؛ فإنهم يَصْدُقُون ويُصَدِّقُون بالحق في كل ما جاء به، ليس لهم هوى إلا مع الحق” منهاج السنة النبوية 7/190.
وقال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُو أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ” المائدة 8.
فمِن العدل مع المخالف قبول ما عنده من الحق والإقرار له به، قال العلامة السعدي: “بل كما تشهدون لوليكم فاشهدوا عليه، وكما تشهدون على عدوكم فاشهدوا له، فلوكان كافرا أو مبتدعا فإنه يجب العدل فيه وقبول ما يأتي به من الحق، لا لأنه قاله، ولا يُرد الحق لأجل قوله فإن هذا ظلم للحق”.
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم إمام المتواضعين يقبل الحق من يهودي فعن قُتيلة بنت صيفي الجُهَنِيَّة قالت: أتى حَبر من الأحبار رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد !نِعم القوم أنتم لولا أنكم تُشركون.
فقال: “سبحان الله وما ذاك؟”
قال: تقولون إذا حلفتم: والكعبة.
قالت: فأمهل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، ثم قال: “إنه قد قال، فمن حلف فليحلف برب الكعبة”.
قال: يا محمد! نِعم القوم أنتم لولا أنكم تجعلون لله ندا.
قال: وما ذاك؟
قال: تقولون: ما شاء الله وشئت.
قالت: فأمهل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ثم قال: “إنه قد قال، فمن قال:ما شاء الله فليقل معها: ثم شئت”رواه أحمد وأورده الألباني في الصحيحة.
فما أعدله صلى الله عليه وسلم.. لم يمنعه بُغضه لليهود ولا خشيته من شماتتهم، من أن يذعن للحق ويقبله من أحدهم. بل إن الشيطان لما دلّ أبا هريرة رضي الله عنه إلى آية الكرسي لتكون له حرزاً، وذلك مقابل فكه من الأسر، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: “أما إنه قد صدقك وهو كذوب”رواه البخاري.
وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: “..اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم” رواه مسلم.
ولهذا كان أهل السنة يقبلون ما عند جميع الطوائف من الحق، ويردون ما عندها من الباطل، بغض النظر عن الموالي منها أو المعادي.
وإن حُب أهل السنة والجماعة وأتباع السلف للحق أكثر من حب أصحاب الأموال لأموالهم ولهذا فهم يطلبونه من كل مصدر ويأخذونه من كل قائل فإن “ما جاء به الرسول هو الحق الذي يدل عليه المعقول، وأولى الناس بالحق أتبعهم له، وأعظمهم له موافقة، وهم سلف الأمة وأئمتها”مجموع الفتاوى 6/88.
قال شيخ الإسلام: “والله قد أمرنا ألا نقول عليه إلا الحق، وألا نقول عليه إلا بعلم، وأمرنا بالعدل والقسط، فلا يجوز لنا إذا قال يهودي أو نصراني -فضلاً عن الرافضي- قولاً فيه حق أن نتركه أو نرده كله، بل لا نرد إلا ما فيه من الباطل دون ما فيه من الحق” منهاج السنة النبوية2/342.
وقال: “والقول الحق الذي يقوم عليه الدليل يُقبل من كل من قاله” منهاج السنة النبوية 1/56.
قال تعالى: “فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ” البقرة 213.
قال ابن القيم رحمه الله: “فمن هداه الله سبحانه إلى الأخذ بالحق حيث كان ومع من كان، ولوكان مع من يبغضه ويعاديه، ورد الباطل مع من كان، ولو كان مع من يحبه ويواليه، فهو ممن هدي لما اختلف فيه من الحق. فهذا أعلم الناس وأهداهم سبيلاً وأقومهم قيلاً”الصواعق المرسلة 2/516.
وقال ابن القيم: “اقبل الحق ممن قاله وإن كان بغيضا، ورد الباطل على من قاله وإن كان حبيبا” مدارج السالكين3/522.
وكان معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول: “اقبلوا الحق من كل من جاء به، وإن كان كافراً -أو قال فاجراً – واحذروا زيغة الحكيم، قالوا: كيف نعلم أن الكافر يقول كلمة الحق؟ قال: إن على الحق نوراً”رواه البيهقي.
إن رسوخ مثل هذه المعاني في أذهان المسلمين لمن أكبر الدوافع إلى الإذعان للحق والرضوخ له مهما كان قائله، ويجعل المسلم مستسلمًا للحق دومًا، قابلًا له، وهذا من شأنه أن يقضي على التعصب المقيت الذي يحمل صاحبه إلى المنابذة والإصرار على الباطل، لا لشيءٍ إلا لأن القائل بالحق ليس من جماعته أو حزبه أو لربما بلده، وهذا هو عين الإرهاب الفكري حيث يصبح المرء أحادي النظرة، نابذًا لآراء جميع مخالفيه، غير مستعدٍ لأن يتمعن في مقولتهم فضلًا عن أن يقبلها. انظر فقه الخلاف وأثره في القضاء على الإرهاب.