من أخلاقيات الدعوة التي بها يخرج المرء من طوق الإمعة إلى التميز بالشخصية، وتربية النفس على الإحسان: خُلق الدفع بالتي هي أحسن.
قال تعالى: “ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ” فصلت.
قال السعدي رحمه الله تعالى: “(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي: فإذا أساء إليك مسيء من الخلق، خصوصًا من له حق كبير عليك، كالأقارب، والأصحاب، ونحوهم، إساءة بالقول أو بالفعل، فقابله بالإحسان إليه، فإن قطعك فَصِلْهُ، وإن ظلمك فاعف عنه، وإن تكلم فيك غائبًا أو حاضرًا فلا تقابله، بل اعف عنه، وعامله بالقول اللين. وإن هجرك، وترك خطابك، فَطيِّبْ له الكلام، وابذل له السلام، فإذا قابلت الإساءة بالإحسان، حصل فائدة عظيمة.
“فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ” أي: كأنه قريب شفيق.
“وَمَا يُلَقَّاهَا” أي: وما يوفق لهذه الخصلة الحميدة “إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا” نفوسهم على ما تكره، وأجبروها على ما يحبه الله، فإن النفوس مجبولة على مقابلة المسيء بإساءته وعدم العفو عنه، فكيف بالإحسان؟
فإذا صبر الإنسان نفسه، وامتثل أمر ربه، وعرف جزيل الثواب، وعلم أن مقابلته للمسيء بجنس عمله، لا يفيده شيئًا، ولا يزيد العداوة إلا شدَّة، وأن إحسانه إليه ليس بواضع قدره، بل من تواضع للّه رفعه، هان عليه الأمر، وفعل ذلك، متلذذًا مستحليًا له.
“وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ” لكونها من خصال خواص الخلق، التي ينال بها العبد الرفعة في الدنيا والآخرة، التي هي من أكبر خصال مكارم الأخلاق”. تيسير الكريم الرحمان
فبدون هذا الخلق الرفيع يتبارى الناس فيما بينهم بما يدبرونه من كيد ردا على إساءة؟!
وبدون هذا الخلق الكريم لا تطمئن النفوس حتى تكيل الصاع بصاعين لمن أخطأ في حقها؟!
والنتيجة: نفوس خبيثة، ومجتمع بغيض..
والمبادرة بالإحسان إلى أي إنسان أسهل بكثير من دوام الإحسان إلى من أساء إليك، واستمرار الصلة مع من قطعك، والتزام العفو عمن ظلمك.. وذلك هو الدفع بالأحسن.
قال بعضهم:
بمكارم الأخلاق كن متخلقا ليفوح مسك ثنائك العطر الشذي
وانفع صديقك إن أردت صداقة وادفع عدوك بالتي فإذا الذي
قال عثمان رضي الله عنه: “فإذا أحسن الناس فأحسن معهم، وإذا أساؤوا فاجتنب إساءتهم” البخاري.
إنه توطين للنفس على الخيرات وحملها على الأخلاق الفاضلات حتى تسمو إلى المنازل العليات، والمقامات السنيات.
ولما وصفت عائشة رضي الله عنها خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفته قائلة: “..ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح” صحيح سنن الترمذي.
والمعنى: (“ولا يجزي بالسيئة السيئة” بل بالحسنة، “ولكن يعفو” أي في الباطن، “ويصفح” أي في الظاهر عن صاحب السيئة) تحفة الأحوذي 6/133.
وإن أدنى صور الدفع بالتي هي أحسن: أن تمتص غضبك، وتكظم غيظك، -مع الحزم في محله وقول الحق- لتنفذ من هذا الباب إلى الحور العين التي تتطلع إليها، فقد جاء في الحديث: “من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيروه في أي الحور شاء” صحيح سنن ابن ماجة.
واعلم أنه لو كان كل إنسان سيقابل أخاه بمثل شره لتخلى الناس عن خصال الخير وغدوا في غابة لا ضابط لها ولا رابط.
قال أيوب السختياني رحمه الله: “لا ينبل الرجل حتى يكون فيه خصلتان: العفة عما في أيدي الناس، والتجاوز عنهم” روضة العقلاء 124-125، مختصره.
وقال ابن حبان رحمه الله: “الواجب على العاقل توطين النفس على لزوم العفو عن الناس كافة، وترك مجازاة الإساءة بمثلها، إذ لا سبب لتسكين الإساءة أحسن من الإحسان، ولا سبب لنماء الإساءة وتهييجها أشد من استعمال مثلها” روضة العقلاء 123، مختصره.