الناظر في عالم الفتيا وحال المستفتين يجد خلطا عجيبا, وجهلا عريضا حتى صار الناس يتلقون الأحكام الشرعية عمن هب ودب, ويسألون من يجدونه أمامهم مغترين تارة بالشكل, وتارة بالمنصب, وتارة بالتشدق في الكلام ونحو ذلك.
مع أن الذمة لا تبرأ إلا بسؤال من يعتبر في الشريعة جوابه, ومن يقبل في ميزان العلم كلامُه كما قال تعالى: “فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ”.
قال السعدي رحمه الله في تفسير الآية: “..وفي تخصيص السؤال بأهل الذكر والعلم نهي عن سؤال المعروف بالجهل وعدم العلم، ونهي له أن يتصدى لذلك” تيسير الكريم الرحمن.
كان محمد بن سيرين رحمه الله تعالى يقول: “إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم” مقدمة صحيح مسلم 1/84 شرحه للنووي.
إذن فالمستفتي يجب عليه أن لا يستفتي إلا من غلب على ظنه أنه أهل لذلك, ويُنْظَر في ذلك إلى جهتي العلم والعدالة، حيث يشتهر المفتي والمسؤول بذلك عند طلاب العلم وأربابه, فإن الشهرة تغني عن التتبع.
قال صاحب المراقي:
من لم يكن بالعلم والعدل اشتهر *** أو حصل القطع فالاستفتا انحظر
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله عند شرحه لهذا البيت: “يعني أن من لم يشتهر بالعلم والدين والورع، ولم يحصل لمن أراد أن يستفتيه قطع بذلك, أو ظن (أي: غلبته) فإنه لا يجوز له أن يستفتيه ولو استفتاه ما جاز له العمل بفتواه” نثر الورود 2/644.
وتُعلم تلك الصفات في المفتي بما يراه المستفتي من انتصابه للفتيا, واحترام الناس له وأخذهم عنه أو يخبر عدل عنه.انظر روضة الناظر 3/1021.
مع العلم أن أصل الصفات الاشتهار بالسير على وفق الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة فتنبه.
ومما يزيد الأمر تقريرا وتأكيدا أن العلماء قرروا أن المرء الذي لم يعرف بالعلم ولا بالجهل كذلك لا يجوز استفتاؤه أيضا.
قال الآمدي رحمه الله في معرص ذلك: “والحق امتناعه على مذهب الجمهور، وذلك لأنه لا نأمن أن يكون حال المسؤول كحال السائل في العامية المانعة من قبول القول، ولا يخفى أن احتمال العامية قائم بل أرجح من احتمال صفة العلم والاجتهاد, نظرا إلى أن الأصل عدم ذلك” الإحكام 4/300.
إذن فليحرص المرء على طلب المؤهل لتلقي الأحكام والفتاوي فليست أهلية الفتوى بمجرد المنصب والولاية كما يظن البعض.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “والمنصب والولاية لا يجعل من ليس عالما مجتهدا عالما مجتهدا, ولو كان الكلام في العلم والدين بالولاية والمنصب لكان الخليفة والسلطان أحق بالكلام في العلم والدين” الفتاوي 27/299.
وليست أهلية الإفتاء بالشكل كذلك.
قال ابن القيم رحمه الله في معرض الكلام عن ذلك: “..وهذا الضرب إنما يستفتون بالشكل لا بالفضل, وبالمناصب لا بالأهلية, قد غرَّهم عكوف من لا علم عندهم عليهم, ومسارعة أجهل منهم إليهم, تعج منهم الحقوق إلى الله عجيجا, وتضج منهم الأحكام إلى من أنزلها ضجيجا, فمن أقدم بالجرأة على ما ليس بأهل من فتيا أو قضاء أو تدريس استحق اسم الذم, ولم يحل قبول فتياه ولا قضائه, هذا حكم دين الإسلام” إعلام الموقعين 4/208.
كذلك لا يجوز استفتاء المتعصب للهوى والمقلد الأعمى لخروجهما عن زمرة العلم وأهله.
قال ابن القيم رحمه الله: “قال الشافعي رحمه الله: أجمع المسلمون على أنه من استبانت له سنة الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس.
قال أبو عمر وغيره من العلماء: أجمع الناس على أن المقلد ليس معدودا من أهل العلم وأن العلم معرفة الحق بدليله. وهذا كما قال أبو عمر رحمه الله, فإن الناس لا يختلفون أن العلم هو المعرفة الحاصلة عن الدليل, وأما بدون الدليل فإنما هو تقليد, فقد تضمن هذان الإجماع إخراج المتعصب بالهوى والمقلد الأعمى عن زمرة العلماء” إعلام الموقعين 2/7.
وكذلك من عرف بالجهل فلا يجوز استفتاؤه وهو أمر مجمع عليه كما حكى ذلك الغزالي رحمه الله في المستصفى 2/290, وابن القيم في إعلام الموقعين 4/203, في آخرين.
كما أنه لا يجوز استفتاء من عرف بالتساهل دون اتباع نصوص الكتاب والسنة.
قال النووي رحمه الله: “يحرم التساهل في الفتوى, ومن عرف به حَرُم استفتاؤه” المجموع شرح المهذب 1/79.
قال السمعاني الكبير رحمه الله: “المفتي من استكمل فيه ثلاث شرائط: الإجتهاد, والعدالة, والكف عن الرخص والتساهل, وللمتساهل حالتان:
إحداهما: أن يتساهل في طلب الأدلة وطرق الأحكام, ويأخذ ببادئ النظر وأوائل الفكر, فهذا مقصر في حق الإجتهاد, ولا يحل له أن يفتي ولا يجوز أن يُسْتفت.
والثانية: أن يتساهل في طلب الرخص وتأول السنة, فهذا متجوز في دينه وهو آثم من الأول” التقرير والتحبير لابن أمير الحاج 3/341.