يعد موطأ الإمام مالك أول مصنف جمع بين الفقه والحديث، وهو كتاب مبارك، كتب الله له القبول في الأرض، قال الإمام الشافعي: ”ما في الأرض بعد كتاب الله أكثر صوابا من “موطأ” مالك” .
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن الإمام أحمد أنه سئل عن كتاب مالك بن أنس، فقال: “ما أحسنه لمن تدين به” .
وقد تفانى العلماء -خاصة المالكية- في شرحه والتعليق عليه؛ نص على ذلك القاضي عياض في كتابه الماتع النافع “ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك” ، فعقد فيه فصلا فيمن اعتنى بكتاب الموطأ.
وقد شد انتباهي اهتمام الإمام السيوطي الشافعي بإمامنا مالك وكتابه الفذ الموطأ، فأردت أن أذكر نفسي وإخواني بالجهود المشكورة التي بذلها في هذا الشأن؛ فأقول -مستعينا بالله-:
لقد ترجم الإمام السيوطي لإمام دار الهجرة ترجمة ضافية في كتابه النفيس “تزيين الممالك بمناقب الإمام مالك” ، استهله بذكر نسبه، واسم أمه، حاكيا الخلاف في صحبة جده، ثم عقد فصلا سرد فيه جملة من الأحاديث النبوية يبشر فيها النبي صلى الله عليه وسلم بالإمام مالك، انتقل بعد ذلك إلى ذكر مولده وصفته، وملبسه وطيبه ومسكنه، ونشأته العلمية، وتصديه للفتوى، وأتى بنقولات جمة تثبت ورعه، ورسوخه في العلم، وسعته في الحفظ، ومكانته عند العلماء، وصبره على الابتلاء.
ثم عقد فصلا آخر تناول فيه ما يلي:
• الرواة الأكابر والحفاظ الذين رووا عن الإمام مالك، وقد لخصهم من كتاب الخطيب البغدادي الموسوم بـ: “الرواة عن الإمام مالك بن أنس، وذكر حديث لكل منهم” ، ورتبهم على حروف المعجم.
• من حدث عن مالك من التابعين وأئمة المسلمين، ممن توفي قبله، مبينا أنه حصل له ما لم يحصل لغيره، بحيث روى عنه من الحفاظ والفقهاء والأكابر خلائق لا يحصون كثرة، منهم: الشافعي، وسفيان الثوري، والزهري، ويحيى بن سعيد، ومن الخلفاء: المنصور والمهدي والرشيد..
تطرق بعد ذلك للحديث عن مصنفاته غير الموطأ، فذكر منها:
– كتاب المناسك.
– رسالته في القدر.
ثم ذكر سنة وفاته -رضي الله عنه-، ومن صلى عليه، وحضر جنازته، وحمل نعشه، وما خلفه من الأولاد، ومقدار تركته، وبعض المرائي التي تدل على علو منزلته عند الله.
ثم ذهب يشرح حال الموطأ، وكيفية تصنيفه، وسبب وضعه وتسميته بهذا الاسم، وعدة أحاديثه، وروايته ورواته، ومراتب الموطآت، وجهود العلماء حوله:
– من شارح لأصله وغريبه.
– ومتكلم على رجاله وشواهده وأطرافه.
وفي نهاية المقام، بسط الكلام في رواية أبي حنيفة عن الإمام مالك.
نهج السيوطي في هذا الكتاب منهج المحدثين في التصنيف، والذي يقوم على محاولة استيعاب جميع الأقوال أو النقول الواردة في الباب، دون تعليق أو تدخل؛ اللهم إلا في بعض المواطن، ومن أهم ما تميز به هذا الكتاب؛ ما تضمنه من نقولات من جملة ما فقد من كتب مناقب الإمام مالك، ككتاب “مناقب مالك” للزبير بن بكار الزبيري المتوفى سنة 256هـ، وكتاب “رسالة إلى من جهل محل مالك بن أنس في العلم” لأبي الفضل بكر بن محمد القشيري المتوفى سنة 344هـ، وكتاب “فضائل مالك” لأبي الحسن بن فهر المتوفى سنة 420هـ.
وعن هذا المنهج يقول السيوطي: “وحب الاستيعاب عند المصنفين -وخصوصا عندي- من آكد الواجب والفرض” .
هذا فيما يخص مناقب الإمام مالك، أما عن كتابه الموطأ؛ فقد أفرد لرواته كتابا سماه: “إسعاف المبطأ برجال الموطأ” فاق فيه الكتب المؤلفة في هذا الباب، استهله بمقدمة علمية بين فيها منهج الإمام مالك في الجرح والتعديل، ثم شرع في ترجمة الرواة الذين روى عنهم مالك في الموطأ -على حروف المعجم- مبتدئا باسم الراوي، ونسبه، وكنيته، ثم شيوخه، فتلاميذه، ثم أقوال علماء الجرح والتعديل فيه، وينتهي بذكر سنة وفاته.
ثم جرد أحاديث الموطأ في سفر مستقل أسماه: “إفراد أحاديث الموطأ”، وقيل: “تجريد أحاديث الموطأ”.
ثم صنف شرحا كبيرا على الموطأ سماه “كشف المغطا”، واختصر منه كتابه “تنوير الحوالك على موطأ مالك”.
جاء في ديباجته ما نصه: “هذا تعليق لطيف على موطأ الإمام مالك بن أنس -رضي الله عنه-، على نمط ما علقته على صحيح البخاري المسمى “بالتوشيح”، وما علقته على صحيح مسلم المسمى “بالديباج”، وأوسع منهما قليلا، لخصته من شرحي الذي جمع فأوعى، وعمد إلى الجفلى حين دعا” .
افتتحه بمقدمة تناول فيها حياة الإمام مالك، وفضل الموطأ، وعدة أحاديثه، وعناية العلماء به، واعتنى فيه بحل ألفاظه، وشرح مشكله، ووصل المنقطع والمرسل من حديثه، وضبط أسماء رواته، مستشهدا بأقوال أئمة المالكية، لا سيما الإمام ابن عبد البر، وهكذا جاء شرحه كافيا للشادي، وقرة عين للصادي.
وبهذا يكون الإمام السيوطي قد أسدى خدمة جليلة لكتاب الموطأ رواية ودراية، ولعل فيما ذكرت كفاية، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.