في ظلال آية أبو يونس محمد الفرعيني

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99].
اليقين في الآية الموت خلافا لما زعم غلاة الصوفية، من (أن المراد باليقين المعرفة، فمتى وصل أحدهم إلى المعرفة سقط عنه التكليف عندهم. وهذا كفر وضلال وجهل، فإن الأنبياء عليهم السلام، كانوا هم وأصحابهم أعلم الناس بالله وأعرفهم بحقوقه وصفاته، وما يستحق من التعظيم، وكانوا مع هذا أعبد الناس وأكثر الناس عبادة ومواظبة على فعل الخيرات إلى حين الوفاة. وإنما المراد باليقين هاهنا الموت) انتهى من تفسير ابن كثير.
والدليل على ذلك قول الله سبحانه مخبرا عن أهل النار أنهم قالوا: {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} [المدثر: 46-47].
وفي صحيح البخاري من حديث أم العلاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل على عثمان بن مظعون -وقد مات- قلت: رحمة الله عليك أبا السائب، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك أن الله أكرمه؟) “فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله، فمن؟ فقال: (أما هو فقد جاءه اليقين، وإني لأرجو له الخير).
وسمي الموت يقينا لأنه أمر متيقن.
ففي الآية تنبيه على أن الإنسان ما دام حياً وله عقل ثابت يميز به، فالعبادة واجبة عليه بحسب طاقته.
ونظير هذه الآية قوله تعالى عن المسيح عليه السلام {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم: 31].
فمما يحزن نفوس أهل الإيمان أن فئاما من الناس جعلوا لعباداتهم وقتا تنقطع فيه وحدًّا تنتهي إليه. فتراهم في مواسم الخير يحرصون على الصلاة والذكر ويلزمون الصيام والقيام، فإذا انسلخ الشهر الفضيل وآذن ليله بالرحيل، هجروا المساجد والمعاهد وراجعوا القبائح والعوائد. ألا فليعلم هؤلاء أن العبادة عهد عهده الله إلينا، وألزمنا الوفاء به، وحرم علينا نقضه، ونهانا عن طاعة عدونا وعبادته. قال سبحانه: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [يس: 60]. وكان من أذكار نبينا صلى الله عليه وسلم: (.. وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت).
وقال تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا} [النحل: 92].
قيل: هذا مثل ضربه الله لامرأة خرقاء كانت بمكة، كلما غزلت شيئا نقضته بعد إبرامه.
وقيل: بل هذا مثل لمن نقض عهده بعد توكيده.
إن مما يعانيه كثير من المسلمين أنهم لم يجدوا طعم الإيمان ولا حلاوته، ففي حديث هرقل عظيم الروم أنه سأل أبا سفيان رضي الله عنه قبل إسلامه الصحابة، ثم قال: وسألتك أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه، فذكرتَ أن لا. وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب. لما ذاق الصحابة طعم الإيمان وأيقنوا بوعد الله هان عليهم ما كانوا يلقون من ألوان العذاب والنكال؛ لأن من عرف ما قصد هان عليه ما وجد.
فترى بلالا يجر على الرمضاء ويقول أحد أحد، ويوضع خبَّابٌ على الجمر حتى ما يطفئ شرَرَ الجمر إلا ودكُ ظهره، في آخرين ملئت بذكر ثباتهم كتب التراجم والسير، وتضوعت بأريج مواقفهم أرجاء المجالس. فلا والله ما تركوا الطاعة في يوم من دهرهم، ولا قصروا في العبادة، ولا أمنوا مكر الله. أفيخاف من بُشِّر بالجنة ويأمن من لا ضمان له؟!
والله لا ينقضي العجب من مسلم يعلم الوعيد الذي جاء في ترك الصلاة ثم يتهاون بأدائها، ألسنا نقرأ في ما أوحي إلى نبينا عليه السلام: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 4-5]. {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59 ]. {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر: 42-43].
ألم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم الأعمى بحضور الجماعة؟ وقال: (لا أجد لك من رخصة). أليس قد همَّ بتحريق بيوت من تخلف عن الجماعة؟ أليس قد صلى بأصحابه في ساحة الحرب صلاة الخوف جماعة؟
إن للمساجد عُمَّارا وزُوارا. والله أمر بعمارتها ولم يأمر بزيارتها. قال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18].
نسأل اللهم الثبات على الهدى ونعوذ بوجهك من الحور بعد الكور. والحمد لله رب العالمين.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *