“الاحتمال المعتبر إنما هو الاحتمال المساوي المقارب، وأما المرجوح فلا”
“وترك ظاهر الأخبار بأن يكرر “لعلَّ” في كلامه وقلَّ شيء إلا وهو يحتمل “لعلَّ” وترك ظاهر الأخبار غير جائز للعل”
مما هو معلوم من باب فقه الاختلاف بين العلماء أن القول إذا احتمله الدليل، وقال به عالم جليل، فلا إنكار ولا تضليل، وهذا ما يعرف بالخلاف السائغ الذي له حظ من النظر كما قال أحدهم:
ليس كل خلاف جاء معتبرا إلا خلاف له حظ من النظر
ومع تقرير البعض لذلك من جهة التنظير والتأصيل إلا أن الواقع يشهد بأن فهمهم وتصورهم لذلك باطل وعليل.
ووجه ذلك توسعهم في قضية احتمالية الأدلة للقول أو الاعتقاد، فصار الاعتماد في كثير من المسائل على مجرد الاحتمال حتى خرجوا بذلك إلى مذاهب بعيدة خالفوا فيها المألوف عند الفقهاء من طرق الاستنباط وقواعد الاستدلال، فالقضية تكمن في صحة الاستدلال والتدليل لا في مجرد الاستناد إلى الدليل فإنك “لا تجد مبتدعا ممن ينتسب إلى الملة إلا وهو يستشهد على بدعة بدليل شرعي فينزله على ما وافق عقله وشهوته” الاعتصام 1/134.
وعليه فيجب النظر في ذاك الاحتمال صحة وبطلانا وقربا وبعدا فإن “الأصل عدم..الاحتمال البعيد” (أضواء البيان 3/396)، بل هو أصالة مردود غير سديد، انظر على سبيل المثال لا الحصر: الفتح 1/80، وشرح مسلم للنووي 4/134، وتحفة الأحوذي 1/274، ونيل الأوطار 4/235.
فالاحتمالات البعيدة هي في حكم النادر أصلا “والنادر لا حكم له” (المدارج 1/45)، و”إذا فتح أورث الاضمحلال لكل ما يعول عليه في الاستدلال” (الجرح والتعديل للقاسمي 36).
فالواجب إذن التمسك بالنصوص الشرعية وطرح الاعتماد على كل احتمالٍ بعيد فهذا الأخير أشبه بالأوهام والخيالات والتلاعب في الحقائق الواضحات.
فترك السنة ودفعها بمجرد الاحتمالات خطأ ظاهر إذ الاحتمالات واردة في كل شيء ولو عُمل بها لضاعت الأمور.
قال الإمام الشاطبي رحمه الله: “مجرد الاحتمال إذا اعتبر أدى إلى انخرام العادات والثقة بها، وفتح باب السفسطة وجحد العلوم ويبين هذا المعنى في الجملة ما ذكره الغزالي في كتابه المنقد من الضلال بل ما ذكره السوفسطائية في جحد العلوم، فبه يتبين لك أن منشأها تطريق الاحتمال في الحقائق العادية أو العقلية فما بالك بالأمور الوضعية.
ولأجل اعتبار الاحتمال المجرد شُدِّد على أصحاب البقرة إذ تعمقوا في السؤال عما لم يكن إليه حاجة مع ظهور المعنى وكذلك ما جاء في الحديث في قوله: (أحجُّنا هذا لعامنا أو للأبد) وأشباه ذلك.
بل هو أصل في الميل عن الصراط المستقيم، ألا ترى أن المتبعين لما تشابه من الكتاب إنما اتبعوا فيها مجرد الاحتمال فاعتبروه وقالوا فيه وقطعوا فيه على الغيب بغير دليل فذمُّوا بذلك وأمر النبي عليه الصلاة والسلام بالحذر منهم” الموافقات 5/402.
وقد يقول البعض إن هذا الكلام منزل على الأخذ بمجرد الاحتمال في مقابلة النص بالمعنى الخاص عند الأصوليين وهو الذي لا يحتمل إلا معنى واحدا وأما إذا كان بخلاف ذلك فالأمر فيه سعة، فنقول: هذا الإطلاق باطل لأنه من أنواع الدلائل الشرعية ما يسمى عند علماء الأصول بالظاهر وهو: “ما احتمل معنيين فأكثر، هو في أحدهما أرجح، أو ما تبادر منه عند الإطلاق معنى مع تجويز غيره” انظر روضة الناظر 2/29.
وحكمه: أن يُسار إلى المعنى الظاهر ولا يجوز العدول عنه إلا بدليل أقوى منه يدل على صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه إلى الاحتمال المرجوح وهذا ما يسمى بالتأويل عند المتأخرين، مع العلم أنه إذا لم يقم الدليل على ذلك فهو تأويل فاسد.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: “القرآن عربي كما وصفت، والأحكام فيه على ظاهرها وعمومها ليس لأحد أن يحيل منها ظاهرا إلى بطن ولا عاما إلى خاص، إلا بدلالة من كتاب الله فإن لم تكن فسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، تدل على أنه خاص دون عام أو باطن دون ظاهر أو إجماع من عامة العلماء الذين لا يجهلون كلهم كتابا ولا سنة، وهكذا السنة ولو جاز في الحديث أن يحال شيء منه عن ظاهره إلى معنى باطن يحتمله كان أكثر الحديث يحتمل عددا من المعاني، ولا يكون لأحد ذهب إلى معنى منها حجة على أحد ذهب إلى معنى غيره، ولكن الحق فيها واحد لأنها على ظاهرها وعمومها إلا بدلالة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قول عامة أهل العلم بأنها على خاص دون عام، وباطن دون ظاهر، إذا كانت إذا صرفت إليه عن ظاهرها محتملة للدخول في معناها” مختلف الحديث للشافعي 7/27-28 بهامش كتاب الأم.
وقال الإمام ابن المنذر فيمن ترك ظاهر الأخبار واعتذر بـ”لعل”: “ترك ظاهر الأخبار بأن يكرر لعلَّ في كلامه وقلَّ شيء إلا وهو يحتمل لعل وترك ظاهر الأخبار غير جائز للعل” الأوسط 11/226.
وقال الحافظ رحمه الله: “الأحاديث الصحيحة لا تدفع بالاحتمالات العقلية، والظن الذي لا مستند له” الفتح 2/81.
وقال الألوسي رحمه الله في معرض كلامه عن اسقاط الاستدلال بحديث لقيام احتمال مخالف للظاهر: “ومثل هذا الاحتمال إن قدح في الاستدلال لا يبقى على وجه الأرض دليل” تفسير الآلوسي 1/107.
وقد عدّ الأخذ بمجرد الاحتمال وطرح ظواهر النصوص من المتشابه الذي قال الله عنه: “فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تاويله”.
قال البيضاوي رحمه الله: “(وأخر متشابهات) محتملات لا يتضح مقصودها لإجمال أو مخالفة ظاهر..” تفسير البيضاوي 1/319.
ولأجل ذلك كله قرر العلماء رحمهم الله أن “المحتمل الذي تقوم به حجة هو الذي يتطرق إليه احتمال معقول، أو تأول مقبول جار على قوانين التأويلات، والأوجه المعروفة في نظائره، وأما احتمال في مقابلة حقيقة ثابثة وأمر واضح فلا يقال له احتمال وإنما هو تلاعب وهوس خيال” الجرح والتعديل للقاسمي 37-38.
وقال القرافي رحمه الله: “الاحتمال المعتبر إنما هو الاحتمال المساوي المقارب، وأما المرجوح فلا ” الفروق 1/227-مختصره.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: “كل احتمال لا يستند إلى أمارة شرعية لم يلتفت إليه” الفتاوي 4/185.
ومنه فإن الخلاف المعتبر الذي تحتمله الأدلة هو ما كان قائما على احتمال مساو مستند إلى أدلة شرعية وقواعد مرعية يراعى فيه السياق وفهم السلف الصالح.
قال الشاطبي رحمه الله: “محال الاجتهاد المعتبر هي ما ترددت بين طرفين، وضح في كل واحد منهما قصد الشارع في الإثبات في أحدهما والنفي في الآخر، فلم تنصرف البتة إلى طرف النفي ولا إلى طرف الإثبات” الموافقات 4/155.