قال الإمام ابن حبان رحمه الله “ومِن أظهرِ التعيير إظهارُ السوء وإشاعتُه في قالب النصح، وزعم أنه إنما يحمله على ذلك العيوب إما عاماً أو خاصاً، وكان في الباطن إنما غرضه التعيير والأذى، فهو من إخوان المنافقين الذين ذمهم الله في مواضع من كتابه، فإن الله تعالى ذم من أظهر فعلاً أو قولاً حسناً وأراد به التوصل إلى غرض فاسد يقصده في الباطن، وعدَّ ذلك من خصال النفاق كما في سورة براءة التي هتك فيها المنافقين وفضحهم بأوصافهم الخبيثة : “وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ” (التوبة:107).
وقال تعالى: (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (آل عمران:188)، وهذه الآية نزلت في اليهود لما سألهم النبي صلى اله عليه وسلم عن شيء فكتموه وأخبروه بغيره، وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك عليه، وفرحوا بما أتوا من كتمانه وما سألهم عنه، كذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما وحديثه بذلك مخرّج في الصحيحين وغيرهما.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رجالاً من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلَّفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قدِم رسول الله اعتذروا إليه وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا فنزلت هذه الآية.
فهذه الخصال خصال اليهود والمنافقين وهو أن يظهر الإنسان في الظاهر قولاً أو فعلاً وهو في الصورة التي ظهر عليها حسن، ومقصوده بذلك التوصل إلى غرض فاسد، فيحمده على ما أظهر من ذلك الحسن ويتوصل هو به إلى غرضه الفاسد الذي هو أبطنه، ويفرح هو بحمده على ذلك الذي أظهر أنه حسن وفي الباطن شيء، وعلى توصله في الباطن إلى غرضه السيء فتتم له الفائدة وتُنَفَّذُ له الحيلة بهذا الخداع.
ومن كانت هذه همته فهو داخل في هذه الآية ولا بد فهو متوعد بالعذاب الأليم.
ومثال ذلك: أن يريد الإنسان ذمَّ رجل وتنقصه وإظهار عيبه لينفر الناس عنه، إما محبة لإيذائه [أو] لعداوته أو مخافة من مزاحمته على مال أو رئاسة أو غير ذلك من الأسباب المذمومة، فلا يتوصل إلى ذلك إلا بإظهار الطعن فيه بسبب ديني، مثل: أن يكون قد ردَّ قولاً ضعيفاً من أقوال عالم مشهور، فيشيع بين من يعظِّم ذلك العالم أن فلاناً يُبغِضُ هذا العالم ويذمُّه ويطعن عليه، فيغرُّ بذلك كل من يعظِّمه ويوهمهم أن بغض الراد وأذاه من أعمال القرب لأنه ذبٌّ عن ذلك العالم ورفع الأذى عنه، وذلك قُربة إلى تعالى وطاعته فيجمع هذا المظهر للنصح بين أمرين قبيحين محرَّمين:
أحدهما: أن يحمل ردُّ العالم القول الآخر على البغض والطعن والهوى، وقد يكون إنما أراد به النصح للمؤمنين وإظهار ما لا يحل له كتمانه من العلم.
الثاني: أن يظهر الطعن عليه ليتوصل بذلك إلى هواه وغرضه الفاسد في قالب النصح والذب عن علماء الشرع، وبمثل هذه المكيدة كان ظلم بني مروان وأتباعهم يستميلون الناس إليهم وينفِّرون قلوبهم عن علي بن أبي طالب والحسن والحسين وذريتهم رضي الله عنهم أجمعين.” (الفرق بين النصيحة و التعيير).