الإلحاد أعظم كفرا من الشرك

الإلحاد في المفهوم المعاصر يعني تعطيل الخالق بالإطلاق، وإنكار وجوده، وعدم الاعتراف به سبحانه وتعالى، وإنما العالم وما فيه قد جاء -على حسب زعمهمـ بمحض الصدفة، وهو مذهب غريب مناف للفطرة والعقل والمنطق السليم، ومناقض لبدهيات العقل ومسلَّمات الفكر.
أما الشرك فهو يتضمن الإيمان بالله عز وجل والإقرار به، ولكن يشمل أيضا الإيمان بشريك لله في خلقه، يخلق، أو يرزق، أو ينفع، أو يضر، وهذا شرك الربوبية، أو بشريكٍ يُصرَف له شيء من العبادة محبة وتعظيما، كما تصرف لله سبحانه وتعالى، وهذا شرك العبادة.
وبالتأمل في هذين الانحرافين نجد أنَّ في كلٍّ منهما مِن الإثم والسوء ما يدلنا على سوء حالهم، وكيف أن الله جل جلاله وصفهم بأنهم كالبهائم:
يقول الله تعالى: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا، أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) الفرقان/43-44.
وقال سبحانه: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) الأعراف/179.
ورغم ذلك كله فالملحد الجاحد المكذِّبُ بوجود الله ورسله واليوم الآخر أعظمُ كفرًا، وأشنعُ مقالةً من الذي آمن بالله وأقر بالمعاد، ولكنه أشرك معه شيئا من خلقه، فالأولُ معاند مكابر إلى الحد الذي لا يتصوره الفكر، ولا تقبله الفطرة، ومثله يستبيح كلَّ محرَّم، ويقع في كل معصية، وينتكس عقله إلى حد لا يخطر على البال، ومع ذلك فقد شكك كثير من المتكلمين في ظاهرة الإلحاد بصدق وجود هذه الظاهرة في قرارة أنفس الملحدين، وقرروا أن الملحد إنما يظاهر بإلحاده، وهو في باطنه مُوقِنٌ بإله واحد.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية الكثير من العبارات التي تدل على أن طائفة الملحدين المعطِّلين الجاحدين أعظم كفرا من المشركين. يقول رحمه الله:
“الكفر عدم الإيمان بالله ورسله، سواء كان معه تكذيب، أو لم يكن معه تكذيب، بل شك وريب أو إعراض عن هذا كله، حسدا أو كبرا أو اتباعا لبعض الأهواء الصارفة عن اتباع الرسالة، وإن كان الكافر المكذب أعظم كفرا، وكذلك الجاحد المكذب حسدا مع استيقان صدق الرسل” انتهى. مجموع الفتاوى 12/335.
وقال رحمه الله: “المستكبر الذي لا يقر بالله في الظاهر كفرعون أعظم كفرا منهم -يعني مِن مشركي العرب- وإبليس الذي يأمر بهذا كله ويحبه ويستكبر عن عبادة ربه وطاعته أعظم كفرا من هؤلاء، وإن كان عالما بوجود الله وعظمته، كما أن فرعون كان أيضا عالما بوجود الله” انتهى. مجموع الفتاوى 7/633.
ويقول أيضا: “قول الفلاسفة -القائلين بقدم العالم وأنه صادر عن موجب بالذات متولد عن العقول والنفوس الذين يعبدون الكواكب العلوية ويصنعون لها التماثيل السفلية: كأرسطو وأتباعه- أعظم كفرا وضلالا من مشركي العرب الذين كانوا يقرون بأن الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام بمشيئته وقدرته، ولكن خرقوا له بنين وبنات بغير علم وأشركوا به ما لم ينزل به سلطانا.
وكذلك المباحية الذين يسقطون الأمر والنهي مطلقا، ويحتجون بالقضاء والقدر، أسوأ حالا من اليهود والنصارى ومشركي العرب؛ فإن هؤلاء مع كفرهم يقرون بنوع من الأمر والنهي والوعد والوعيد؛ ولكن كان لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله، بخلاف المباحية المسقطة للشرائع مطلقا، فإنما يرضون بما تهواه أنفسهم، ويغضبون لما تهواه أنفسهم، لا يرضون لله، ولا يغضبون لله، ولا يحبون لله، ولا يغضبون لله، ولا يأمرون بما أمر الله به، ولا ينهون عما نهى عنه؛ إلا إذا كان لهم في ذلك هوى فيفعلونه لأجل هواهم، لا عبادةً لمولاهم؛ ولهذا لا ينكرون ما وقع في الوجود من الكفر والفسوق والعصيان إلا إذا خالف أغراضهم فينكرونه إنكارا طبيعيا شيطانيا، لا إنكارا شرعيا رحمانيا؛ ولهذا تقترن بهم الشياطين إخوانهم فيمدونهم في الغي ثم لا يقصرون، وقد تتمثل لهم الشياطين وتخاطبهم وتعينهم على بعض أهوائهم كما كانت الشياطين تفعل بالمشركين عباد الأصنام ” انتهى. مجموع الفتاوى 8/457-458.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *