الاجتهـاد الشرعي عند أهل السنة والحديث رشيد مومن الإدريسي

عرف علماء الأصول الاجتهاد بقولهم: “بذل الوسع في النظر في الأدلة الشرعية لاستنباط الأحكــام الشرعية”.
وقد اشتمل هذا التعريف على الضوابط الآتيــة:
أن الاجتهاد هو بذل الوسع في النظر في الأدلة، فهو بذلك أعم من القياس إذ القياس هو إلحاق الفرع بالأصل، أما الاجتهاد فإنه يشمل القياس وغيره.
أن الاجتهاد لا يجوز إلا من فقيه، عالم بالأدلة وكيفية الاستنباط منها، إذ النظر في الأدلة لا يتأتى إلا ممن كان أهلاً لذلك.
أن الاجتهاد قد ينتج عنه القطع بالحكم أو الظن به، وذلك ما تضمنه قيد “الاستنباط”.
وقد تضمن قيد “الاستنباط” أيضا بيان أن الاجتهاد إنما هو رأي المجتهد واجتهاده، وذلك محاولة منه لكشف حكم الله، ولا يسمى ذلك تشريعا، فإن التشريع هو الكتاب والسنة، أما الاجتهاد فهو رأي الفقيه أو حكم الحاكم.

حكم الاجتهاد:
على سبيل الإجمــال نقول: أن حكم الاجتهاد جائز وهو مذهب الجمهور.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: “والذي عليه جماهير الأمة أن الاجتهاد جائز في الجملـة”1.
وأما على سبيل التفصيل، فإنه قد يجب وقد يحرم وقد يستحب وقد يكره، وقد يكون مباحاً، وذلك يختلف بحسب أهلية المجتهد، وحسب نوع المسألة المنظور فيها، وحسب الحاجة إليها، وحسب الوقت.
فيكون الاجتهاد واجبا: إذا كان المجتهد أهلاً للاجتهاد، وكانت المسألة، مما يسوغ فيها الاجتهاد2، وقد قامت الحاجة الشديدة إلى معرفة الحكم مع ضيق الوقت.
ويكون مستحبا إذا لم تكن الحاجة قائمة وكان الوقت متسعاً مع كون المجتهد أهلاً للاجتهاد.
ويكون محرماً إذا لم يكن المجتهد أهلاً3 ولم توجد الحاجة لذلك أو كان أهلاً لكن كانت المسألة مما لا يجوز فيها الاجتهاد بأن كان الحكم منصوصاً أو مجمعاً عليه.
ويكون مكروها إذا كان المجتهد أهلاً وكانت المسألة مما يستبعد وقوعها مثلا.
ويكون مباحاً إذا كان المجتهد أهلاً وكانت المسألة مما يمكن وقوعها وكان الوقت متسعاً.

شروط الاجتهاد:
لقد اشترط أهل العلم في المفتي مؤهلات عدة حتى يكون ذا قدرة على الفتيا وهي الإسلام والتكليف والعدالة، وهذه الثلاثة متفق عليها بينهم.
واشترطوا أيضا: الرابع: الاجتهاد وهو قول جمهور أهل العلم، والاجتهاد عبارة عن خمسة أمـــور:
العلم بالكتاب والسنة: بأن يعرف ما فيهما مما يتعلق بالأحكام معرفة تفصيلية، بأن يحفظ جملة غالبة منها أو يكون متمكنا من الوصول إلى معرفة ذلك بيسر وسهولة، مع معرفة وجوه الدلالة القرآنية والحديثية، وتمييز صحيح الحديث من سقيمه وناسخه ومنسوخه، وعامه وخاصه، ومطلقه ومقيده.
العلم بلسان العرب: ومعرفته معرفة تخوله فهم القرآن والسنة الواردين بلغة العرب ولسانهم4.
العلم بأصول الفقه: وهو كالأساس للمفتي إذ به يعرف مدارك الأحكام، ويصل إلى الأدلة التفصيلية.
العلم بإجماع العلماء واختلافهم، وذلك حتى لا يخرج عنه، ويبقى ترجيحه الموافق للدليل كتابا و سنة ضمن الأقوال المختلف فيها.
جودة القريحة واليقظة: فلا تصلح فتيا الغبي والمغفل، ولا من كثر غلطه.

باب الاجتهاد مفتوح دائماً:
لا يجوز خلو الزمان من مجتهد قائم لله بحجته يبين للناس ما نزل بهم خلافاً لمن قال بإغلاق باب الاجتهاد، ويدل على هذا قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: “لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة” فإنه -صلى الله عليه- أخبر في هذا الحديث باستمرار وجود القائمين بالحق إلى انتهاء الدنيا.
وقد بوب الخطيب البغدادي -رحمه الله- لهذه المسألة بقوله: “ذكر الرواية أن الله تعالى لا يخلي الوقت من فقيه أو متفقه”.

أقســام المجتهدين ومنزلة كل قسم5
والمجتهدون على أقسام:
المجتهد المطلق: وهو الذي توفرت فيه شروط الاجتهاد المتقدمة فيتمسك بالدليل حيث كان، فهذا القسم من المجتهدين هم الذين يسوغ لهم الإفتاء ويسوغ استفتاؤهم ويتأدى بهم فرض الاجتهاد وهم الذين قال فيهم علي -رضي الله عنه-: “لن تخلو الأرض من قائم لله بحجته”.
مجتهد المذهب: وهو العالم المتبحر بمذهب من ائتم به المتمكن من تخريج ما لم ينص عليه إمامه على منصوصه، فإذا نزلت به مثلاً نازلة ولم يعرف لإمامه فيها نصاً أمكنه الاجتهاد فيها على مقتضى المذهب و تخريجها على أصوله.
مجتهد الفتوى والترجيح: وهو أقل درجة من سابقه لأنه قصر اجتهاده على ما صح عن إمامه ولم يتمكن من تخريج غير المنصوص، وإذا كان لإمامه في مسألة قولان فأكثر اجتهد في ترجيح أحدهما.
ففتاوى القسم الأول كما قال ابن القيم -رحمه الله-: “من جنس توقيعات الملوك، وفتاوى القسم الثاني من جنس توقيعات نوابهم، وفتاوى القسم الثالث من جنس توقيعات نواب نوابهم”اهـ.

المصيب واحد من المجتهدين6
الحق في قول واحد من المجتهدين المختلفين ومن عداه فخطئ لكن المخطئ في الفروع التي ليس فيها دليل ظاهر معذور غير آثم بل له أجر على اجتهاده، وهذا هو الحق خلافاً لمن قال أن كل مجتهد مصيب.
وقد بوب الحافظ ابن عبد البر -رحمه الله- لذلك فقال: “باب الدليل في أقاويل السلف على أن الاختلاف خطـأ وصواب”7.
وفصل النزاع في هذه المسألة ما ثبت في الحديث المتفق عليه من أن الحاكم إذا اجتهد فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر. فإن الحديث صريح في أن الحق واحد، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- جعل المجتهدين على قسمين: قسم مصيب وقسما مخطئ، ولو كان كل منهم مصيباً -كما ذهب إليه من ذهب- لم يكن لهذا التقسيم معنـى.
مع التنبيه على أن قول من قال: كل مجتهد مصيب حمل على محامل.
قال الشيخ محمد سعيد الباني -رحمه الله-: “والذين قالوا بتعدد الحق تأولوا هذا الحديث، وعلى كل حال لا أرى هذا الخلاف كبير فائدة ما دام القائلون بالتعدد متفقين على أن المخطئ مأجور غير مأزور وأن قوله يعتبر حكماً شرعياً في حق نفسه، وفي حق من يأخذ به…”8.
والمعنى أن قولهم: كل مجتهد مصيب محمول على محملين:
كل مجتهد في نفسه مصيب.
كل مجتهد مصيب باعتبار من أخذ عنه أي في حقه لأن مذهب العامي مذهب مفتيه، فتأمــل.
وذُكر قول ثالث كشف عنه العلامة الشنقيطي رحمه الله9 وهو:
أن معنى قولهم كل مجتهد مصيب أي أنه يصيب الأجر أخطأ أو أصاب.
تجزؤ الاجتهـاد:
قد اختلف العلماء في جواز تجزئة الاجتهاد، والذي عليه المحققون من أهل العلم جوازه وصحته.
قال ابن القيم -رحمه الله-: “الاجتهاد حالة تقبل التجزؤ والانقسام، فيكون الرجل مجتهداً في نوع من العلم مقلداً في غيره، أو في باب من أبوابه. كمن استفرغ وُسعه في نوع العلم بالفرائض وأدلتها واستنباطها من الكتـاب والسنة دون غيرها من العلوم، أو باب الجهاد أو الحج أو غير ذلك. فهذا ليس له الفتوى فيما لم يجتهد فيه، ولا تكون معرفته بما اجتهد فيه مسوغة له للإفتاء بما لا يعلم في غيره.
وهل له أن يفتي في النوع الذي اجتهد فيه؟
فيه ثلاثة أوجه: أصحهما الجواز بل هو الصواب المقطوع بـه10، والثاني: المنع، والثالث الجواز في الفرائض دون غيرها..”11.
……………………………………………………
1. الفتاوي 20/203.
2. المراد بالاجتهاد السائغ هنا، أي: يسوغ بذل الجهد فيه لعدم الدليل البين الواضح، والإجماع المحقق، فتنبه لمفهوم هذا الاصطلاح في بعض سياقات كلام أهل العلم فإن الكثيرين في وقتنا هذا لم يضبطوا هذه النقطة فوقع منهم خلط عجيب..
3. يتبين من هذا أن فتيا المقلد لا تصح ولا تجوز، وصحح الإمام ابن القيم -رحمه الله- أن إفتاء المقلد جائز عند الحاجة وعدم وجود العالم المجتهد، انظر إعلام الموقعين (1/46)، وقيده ابن حمدان -رحمه الله- بالضرورة (صفة الفتوى:24)، مع التنبه إلى أن هذا الذي قرره أهل العلم غير متصور في النوازل والحوادث ولا قُصد به ذلك فتأمل ولا تعجل…
4. والمقصود أن يعرف من لسان العرب القدر الذي يفهم به خطابهم، قال السبكي -رحمه الله- في الإبهاج (3/355) عند شروط المجتهد: “علم العربية.. فليعرف القدر الذي يفهم به خطاب العرب، وعاداتهم في الاستعمال.. وليس عليه أن يبلغ مبلغ الخليل بن أحمد..”اهـ. أما الاستكثار والتوسع فيها فليس بشرط أساس في الاجتهاد وإنما ذلك يزيد المجتهد قوة في البحث فتنبه. انظر إرشاد الفحول:252.
5. تسهيل الوصول إلى فهم علم الأصول (83-85).
6. انظر “تسهيل الوصول إلى فهم علم الأصول” (85) بتصرف.
7. جامع بيان العلم 2/80.
8. عمدة التحقيق 35.
9. الصوارم والأسنة 280.
10. ولا يعني هذا جواز فتواه في النوازل أو المسائل الكبار التي لا يتكلم فيها إلا أرباب العلم بل في بعضها خواصهم، فهل يصح يا رعاكم الله أن يفتي في ذلك من كان مجتهدا في باب أو بابين؟!! والتفصيل في هذه القضية ليس هذا محله.
11. إعلام الموقعين 4/216.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *