الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
قال تعالى: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114].
الإصلاح بين الناس واجب، لقول الله تعالى: {فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ} [الأنفال:1].
قال السعدي رحمه الله: أي: لا خير في كثير مما يتناجى به الناس ويتخاطبون، وإذا لم يكن فيه خير، فإما لا فائدة فيه كفضول الكلام المباح، وإما شر ومضرة محضة كالكلام المحرم بجميع أنواعه.
ثم استثنى تعالى فقال: {إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ} من مال أو علم أو أي نفع كان…
{أَوْ مَعْرُوفٍ} وهو الإحسان والطاعة وكل ما عرف في الشرع والعقل حسنه…
{أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} والإصلاح لا يكون إلا بين متنازعين متخاصمين، والنزاع والخصام والتغاضب يوجِب من الشر والفرقة ما لا يمكن حصره، فلذلك حث الشارع على الإصلاح بين الناس في الدماء والأموال والأعراض، بل وفي الأديان كما قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} وقال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} الآية.
وقال تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} والساعي في الإصلاح بين الناس أفضل من القانت بالصلاة والصيام والصدقة، والمصلح لا بد أن يصلح الله سعيه وعمله.
كما أن الساعي في الإفساد لا يصلح الله عمله ولا يتم له مقصوده كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ}. فهذه الأشياء حيثما فعلت فهي خير، كما دل على ذلك الاستثناء. اهـ من تفسيره (1/202) بحذف واختصار.
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصّيام والصّلاة والصّدقة؟» قالوا: بلى، قال: «صلاح ذات البين، فإنّ فساد ذات البين هي الحالقة» رواه أبو داود والترمذي واللفظ له، وقال: هذا حديث صحيح.
قال ابن القيّم رحمه اللّه في إعلام الموقعين (1/109-110): “فالصّلح الجائز بين المسلمين هو الّذي يعتمد فيه رضا اللّه سبحانه ورضا الخَصْمَيْن، فهذا أعدل الصّلح وأحقّه، وهو يعتمد العلم والعدل، فيكون المصلح عالما بالوقائع، عارفا بالواجب، قاصدا للعدل، فدرجة هذا أفضل من درجة الصّائم القائم”.
ولا بد مع معرفة الأجر العظيم الذي أعده الله لمن يعدل بين اثنين ويصلح بينهما أن يعلم أن للإصلاح آدابا يجب أن تعلم:
أولاً: أن يبتغي بذلك وجه الله؛ قال تعالى: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114].
ثانياً: أن يكون رفيقا حكيما في التعامل مع الأمور، فإن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وفي بعض ما يكون بين المتخاصمين حساسيات، فيترفق في معالجة الأمور.
ثالثاً: أن يتكتم ولا ينشر التفاصيل بين الناس؛ فإن كثيرا مما يكون بين الزوجين خاصة لو انتشر عَسُرَ بعد ذلك الإصلاح أو استحال.
رابعاً: أن يُذَكِّر كل واحد من المتخاصمين بالله عز وجل، وبحق الآخر عليه، إن كان زوجاً ذكره بحقوق الزوجة، وإن كانت زوجة ذكرها بحقوق الزوج، وإن كان أخاً في الله ذكره بحقوق الأخوة.
قال صلّى اللّه عليه وسلّم: «تفتح أبواب الجنّة يوم الإثنين، ويوم الخميس فيغفر لكلّ عبد لا يشرك باللّه شيئا إلاّ رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء (أي: عداوة وبغضاء) فيقال: أنظروا هذين (أي: أخروهما) حتّى يصطلحا. أنظروا هذين حتّى يصطلحا. أنظروا هذين حتّى يصطلحا» رواه مسلم.
خامسا: استعمال التورية والمعاريض؛ فإنه لا بأس أن ينقل إليه كلمات من الخير على لسان الطرف الآخر، ويكتم عنه أموراً من الشر جاءت على لسانه، هذا من السياسة والحكمة في الإصلاح بين المتخاصمين.
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «ليس الكذّاب الّذي يُصلح بين النّاس، فَيَنْمِي خيرا أو يقول خيرا» (أي: ينقل ما فيه خير وإصلاح) متفق عليه.
ولم يرخّص في شيء مما يقوله الناس إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين النّاس، وحديث الرّجل امرأته وحديث المرأة زوجها كما جاء عن أم كلثوم بنت عقبة في صحيح مسلم. وقد ثبت مرفوعا عن أسماء بنت يزيد عند الترمذي.
جعلنا الله صالحين مصلحين مفاتيح للخير مغاليق للشر، والحمد لله رب العالمين.