من مميزات منهج السلف التــجــديــد نور الدين درواش

من مِنَنِ الله على هذه الأمة التي خصها بها، أن قيض لها أئمة في كل فترة يعيدون ربط ما انفك من علاقتها بدينها، وَوَصْلَ ما انقطع من أواصر العمل بشريعتها، وإيصال نور الوحي إلى العباد وإزالة ما عَلِق بالدين من العوائد والمحدثات.. مصداق ذلك ما ثبت عَنْ ‏ ‏أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏أنه ‏قَالَ: “‏إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا” رواه أبو داود.

وقد عرَّف العلماء التجديد بأنه: “إحياء ما انْدَرَسَ -أي انطمس- من العمل بالكتاب والسنة والأمر بمقتضاهما وإماتة ما ظهر من البدع والمحدثات” عون المعبود11/391.
ويعتبر التجديد بهذا المعنى أحد أعظم مميزات دعوة السالكين طريق السلف، فلا منهج يحمل أصحابه على عواتقهم مهمة إحياء العمل بالنصوص الشرعية على نحو ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم كما يحمله أهل الحديث، وهذا أمر يظهر جليا في النتاج العلمي والجهود الدعوية المستمرة للمدرسة السلفية عبر التاريخ، فهم الذين لا يتركون أمرا شرعيا هجره الناس إلا وسَعَوا في إحيائه ونشره وبثه، سواء كان من العقائد أو العبادات أو من السلوك أو المعاملات.
ومما يبرهن على ذلك ما قدمه علماء منهج السلف من خدمات جليلة تروم تقريب أحكام القرآن والسنة لعموم الناس في شتى العصور والأزمنة، كتفاسير القرآن، وشروح دواوين السنة، ومصنفات التوحيد والعقيدة، وكتب الفقه المبني على الدليل بعيدا عن التقليد والتعصب، وكذا كتب التربية السلفية المنبثقة من نصوص الوحيين.
أما فيما يتعلق بمحاربة البدع والسعي في إماتتها فقد حاز أتباع السلف في ذلك قَصَبَ السبق، فما من بدعة إلا وحذروا الناس منها، ولا منهج محدث إلا ونفروا الناس منه.
وهذا هو التطبيق العملي الصحيح لمفهوم التجديد الذي تبناه أئمة الإسلام وأقاموا صرحه “ولا يزال أهل العلم -رحم الله أمواتهم وحفظ لنا أحياءهم- يشيدون هذا البناء العظيم بنشر كل سنة ومَحْق كل بدعة، ورد أصحاب الأهواء وتُرَّهاتهم… تارة بالعلم والتعليم.. وأخرى بالرد والتحذير.. وطورا بالهجر والتعنيف.. وأطوارا بالتأليف والتصنيف.. ولو أردنا استقصاء ذلك وحصر صوره وأشكاله، لطال بنا المقال..” من مقدمة محقق كتاب الحوادث والبدع للإمام الطرطوشي.
والتجديد بهذا المعنى لا يعدو أن يكون إحقاقا كونيا قدريا من الله عز وجل لموعود نبيه صلى الله عليه وسلم حين قال:”‏لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ ‏أَمْرُ اللَّهِ ‏‏وَهُمْ كَذَلِكَ ‏” رواه مسلم.
وقوله صلى الله عليه و سلم: “يَحْمِلُ هَذَا العِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الغَالِينَ، وانْتِحَالَ المُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الجَاهِلِينَ” رواه البيهقي.
ثم إن النبي صلى الله عليه و سلم قال: “إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لاَ يَنْزِعُهُ عَنْكُم حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ” رواه أبو داود.
فقد بين هذا الحديث أن سبيل العزة يكمن في رجوع الخلف لدين السلف الذين خاطبهم النبي صلى الله عيه وسلم بقوله: “حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ” وهذا عين التجديد.
أما عند أدعياء التجديد المعاصرين فالتجديد هو إضافة أشياء جديدة إلى الدين وحذف أحكام وتغيير حقائق الإسلام الثابتة، ولَيُّ أعناقِ النصوص الشرعية المُحْكَمَة لمسايرة الواقع -بزعمهم- وهذا منهج هدام ومسلك فاسد، يروم القضاء على هذا الدين وشن الحرب عليه من الداخل.
ثم إن أتباع منهج السلف أناطوا مسؤولية التجديد بخاصة أهل العلم، الذين فيه رسخت أقدامهم، وطال باعهم، وتحققت فيهم شروط الاجتهاد، قال صاحب عون المعبود 11/391: “..‏فظهر أن المجدد لا يكون إلا من كان عالما بالعلوم الدينية، ومع ذلك من كان عزمه وهمته آناء الليل والنهار إحياء السنن ونشرها ونصر صاحبها، وإماتة البدع ومحدثات الأمور ومحوها، وكسر أهلها باللسان أو تصنيف الكتب والتدريس أو غير ذلك، ومن لا يكون كذلك لا يكون مجددا البتة، وإن كان عالما بالعلوم مشهورا بين الناس ومرجعا لهم”.
أما دعاة التجديد المعاصرين فإنهم فتحوا الباب على مصراعيه لكل من هب ودب من “مفكر” أو “منظر” أو “محلل” أو صحفي.. ليُسهموا -بزعمهم- في تجديد الدين، فأضافوا إلى انحراف مفهوم التجديد عندهم كون هؤلاء المرشحين له من أجهل خلق الله بشرعه، ومن أبعدهم عن ضبط أصوله ومصادره وفنونه وقواعده، ومعرفة ناسخه من منسوخه وعامه من خاصه.. فكان هذا النتاج المشؤوم الذي خرجوا به علينا.
ومن أمثلته: الدعوة إلى تغيير أحكام الشريعة القطعية الثابتة بنصوص الوحي في الإرث، والطلاق، والحجاب.. فهل يكون هؤلاء مصلحين؟؟ “هم يخربون الدين فكيف يجددون؟ ويميتون السنن فكيف يحيونها؟ ويروجون البدع فكيف يمحونها؟ وليسوا إلا من الغالين المبطلين الجاهلين، وجل صناعتهم التحريف والانتحال والتأويل، لا تجديد الدين، ولا إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة. هداهم الله تعالى إلى سواء السبيل”.المرجع السابق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *