من بلايا العصور المتأخرة قلة أهل العلم الراسخين فيه, كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: “إنكم في زمان كثير علماؤه، قليل خطباؤه, وإن بعدكم زمانا كثير خطباؤه, والعلماء فيه قليل” صحيح الأدب المفرد.
وممن زاد الأمر بلاء ما يراه العاقل من فوضى علمية حيث تصدى أكثر الناس للكلام في دين الله جل وعلا بإصدار الفتاوي والأحكام دون أهلية, إضافة إلى التلاعب بالألقاب العلمية والرتب السنية لأهل العلم، فشُيِّخَ الأصاغر، وأهمل الأكابر، وأخذ بقول البلداء، وترك النجباء.
ولا غرابة في حصول ذلك في مثل هذا الزمن الذي فيه “الورع قل بل كاد يعدم، والتحفظ على الديانات كذلك, وكثرة الشهوات, وكثـُر من يدعي العلم, ويتجاسر على الفتوى فيه” الموافقات 4/146.
فتصدى لتوجيه الناس الأنصاف والأصاغر, فعم الوباء, وكثر البلاء, وتنوع الانحراف في الأفكار والأقوال والأعمال والاعتقادات, وصار الأمر كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: “وكم من مدَّع للمشيخة وفيه نقص من العلم والإيمان ما لا يعلمه إلا الله تعالى” الفتاوي 11/513.
وهذا الأمر فيه من المفاسد ما الله جل وعلا به عليم وبصير.
وقد قال بعض الناس: “أكثر ما يفسد الدنيا: نصف متكلم, ونصف متفقه, ونصف متطبب, ونصف نحوي, هذا يفسد الأديان, وهذا يفسد البلدان, وهذا يفسد الأبدان, وهذا يفسد اللسان” الفتاوي 5/118.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: “إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويكثر الجهل” متفق عليه.
وأخرج الحافظ ابن عبد البر رحمه الله في جامع بيان العلم بإسناد صحيح عن مالك رحمه الله قال: “أخبرني رجل دخل على ربيعة بن أبي عبد الرحمن فوجده يبكي، فقال له ما يبكيك؟ وارتاع لبكائه, فقال له: أدخلت عليك مصيبة؟ فقال: لا ولكن استفتي من لا علم له, وظهر في الإسلام أمر عظيم, ولبعض من يفتي ها هنا أحق بالسجن من السراق”.
وهكذا تتابعت شكاوى أهل العلم والعرفان يرددون معنى كلمة ربيعة رحمه الله كابن الجوزي في تعظيم الفتيا 113, وابن الصلاح في أدب المفتي والمستفتي 80, وابن حمدان في صفة الفتوى والمفتي والمستفتي 11, وابن القيم في إعلام الموقعين 6/118, وغيرهم, كل يبكي على أحوال زمانه ويتحسر من أوضاع العلم وأهله, فكيف لو رأو زماننا وما نحن فيه؟ فإلى الله المشتكى.
فوضى عريضة, وتناقضات غريبة, واضطرابات شديدة, وجرأة عجيبة.
ورضي الله عن علي حيث قال: “العلم نقطة كثرها الجاهلون” سبل السلام 4/187, وتاج العروس 20/153.
ورحم الله من قال: “إذا ازدحم الجواب خفي الصواب” جامع بيان العلم 11/148, و” اللغط يكون منه الغلط” نفسه, و”لو سكت من لا يعلم لسقط الاختلاف” نفسه.
وصدق من قال: “الحَجرُ لاستصلاح الأديان أولى من الحجر لاستصلاح الأموال والأبدان” التعالم 10-41.
واعلم أنه مما أعان على هذه الفوضى العلمية تكثير الناس لسواد من لا علم عنده، ولا دراية لديه, فيسأل ويتلقى عنه أحكام الشريعة و… إلى غير ذلك مما كان السلف الصالح يخافون على أنفسهم منه مع علو كعبهم في العلم, ورفيع مكانتهم في العمل.
ولذا فلا يجوز تلقي الأحكام والفتاوي وأمور الشرع إلا عمن يعتبر في الشريعة كلامه ونظره الموافق للكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة في الاعتقاد والقول والعمل.
قال الشاطبي رحمه الله: “..السائل لا يصح أن يسأل من لا يعتبر في الشريعة جوابه, لأنه إسناد أمر إلى غير أهله, والإجماع على عدم صحة مثل هذا, بل لا يمكن في الواقع..” الموافقات 4/192.