مما هو معلوم في الشريعة الإسلامية أن في الدين أولويات.. أولويات في قضايا الإيمان.. وفي الأعمال.. وفي الدعوة.. وفي العلم..
ولذا فعلى العالم أو الداعية أو الناظر البصير أن يرتب الأمور عند تزاحمها.. الأهم فالأهم.. والأحوج فالأحوج.. وهكذا، كل ذلك مراعاة لفقه الأولويات الذي يمنح الآخذ به بصيرة وتوفيقا، ويعطيه رؤية واضحة فيما هو عام وخاص.
تعريف فقه الأولويات
لا يقصد بكلمة الفقه هنا المعنى الاصطلاحي المعروف عند علماء الأصول وإنما المراد بذلك الفهم مطلقا الذي جعل شرط بلوغ الخير كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: “من يرد الله به خيرا يفقه في الدين”.
وهذا المعنى يوافق المعنى اللغوي على الراجح من أقوال أهل العلم كما ذهب إليه الآمدي والباجي وابن عقيل والأسنوي والشوكاني في آخرين رحمهم الله.
أما الأولويات فهي جمع أولى وهو في اللغة بمعنى أحرى وأجدر كما في القاموس ومختار الصحاح.
وعليه فيعرَّف فقه الأولويات الذي كان يسمى عند علماءنا قديما بفقه البداءة بالأهم فالأهم، بالآتي: “العلم بالأحكام الشرعية التي لها الحق في التقدم على غيرها بناء على العلم بمراتبها، وبحسب الواقع الذي يتطلبها”.
فيظهر من خلال هذا التعريف أن فقه الأولويات قائم على دعامتين:
أولا: معرفة مراتب الأعمال
قال تعالى: “يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ”.
قال الآلوسي رحمه الله في تفسيرها: “وهذه الثلاثة متفاوتة الرتب فرتب سبحانه وتعالى ذلك مقدما الأهم فالأهم والألزم فالألزم” روح المعاني 1/119.
وفي أحاديث كثيرة سئل النبي عليه الصلاة والسلام عن أي الإسلام أفضل فكان الجواب بما يفيد تقريره عليه الصلاة والسلام باختلاف رتب الأعمال، ولذلك بوب الإمام النووي رحمه الله لأحاديث رواها مسلم في صحيحه من هذا النوع فقال: “باب بيان تفاضل الإسلام أو أي أموره أفضل” شرح مسلم 2/9.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “وتمام الورع أن يعلم الإنسان خير الخيرين وشر الشرين.. وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية فقد يدع واجبات ويفعل محرمات” الفتاوي 10/512.
ثانيا: معرفة واقع المسألة (الواقع المؤثر)
ذلك حتى ننزل حكم الله على تلك الواقعة كما أراد الله تعالى، يقول ابن القيم رحمه الله: “ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم:
أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما.
النوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر، فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك، لم يعدم أجرين أو أجرا، فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله” إعلام الموقعين 1/87.
إذن فلا بد في فقه الأولويات من معرفة واقع المسائل التي نريد البث فيها، وهذا الذي يعرف عند العلماء بتحقيق المناط الذي قال فيه الشاطبي رحمه الله في الموافقات 4/90: “لا خلاف بين الأمة في قبوله، ومعناه: أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي لكن يبقى النظر في تعيين محله”.
ضوابط فقه الأولويات
ينبغي أن يضبط هذا الفقه بضابطين اثنين:
أولا: أن فقه الأولويات وتقديم الراجح على المرجوح هذا في حالة التزاحم والتعارض لا على سبيل الإطلاق.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “..ينظر في الراجح منهما فيعمل به، فقد تترجح الحسنة على السيئة فتعمل، وقد تترجح السيئة على الحسنة من حيث فعلها فتعمل، وهذا كله إذا كان يلزم من فعل الحسنة الوقوع في السيئة أو يلزم من ترك السيئة ترك الحسنة” الفتاوي.
وفي ذلك يقول السعدي رحمه الله:
فإن تزاحم عدد المصالح *** يقدم الأعلى من المصالح
وضده تزاحم المفاسد *** يرتكب الأدنى من المفاسد
ثانيا: أن المفاضلة والموازنة بين الأعمال والتصرفات مرجعه أصالة إلى الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، ذلك لأن الأولويات ليست خاضعة لرغبات شخصية وأهواء فردية وتوجهات حزبية.
قال الإمام الذهبي رحمه الله: “فضل الأعمال بعضها على بعض إنما هو التوقيف، وورد في ذلك أحاديث عدة..” السير 11/419.
ومما يرجع إلى ذلك اعتماد القواعد اللغوية (كصيغ التفضيل)، والقوانين العقلية المنطقية، ودلائل النظر والاعتبار.
وعليه فإن فقه الأولويات حقيقة شرعية، وبدهية عقلية.
فقه الأولويات عند علماء المسلمين
الناظر في كلام العلماء والفقهاء يجد هذا الفقه عندهم بارزا ظاهرا في جملة من القواعد الشرعية والمسائل المرعية من ذلك على سبيل المثال لا الحصر:
– يقسم العلماء مقاصد الشريعة إلى الضروريات والحاجيات والتحسينيات على حسب هذا الترتيب، بحيث إذا حصل -مثلا- تعارض بين ضروري وحاجي يقدم الأول. انظر الموافقات 3/306.
– والأحكام الشرعية كما كشف عن ذلك العلماء ليست بمتساوية الأقدام بل متفاوتة، فهناك الإيجاب والتحريم والاستحباب والكراهة والإباحة، فإذا تزاحم -مثلا- واجب مع مستحب يقدم الأول، انظر الموافقات 3/321.
– ونلحظ كذلك هذا الفقه عند علماءنا جليا في كثير من القواعد الشرعية من ذلك:
– التيسير أولى من التعسير.
– السعة أولى من الضيق.
– المتعدي مقدم على القاصر.
– الإعمال خير من الإهمال.
وغيرها كثير.
من مجالات فقه الأولويات
لفقه الأولويات مجالات كثيرة من ذلك:
أولا: تعارض المصالح والمفاسد
ففي حديث عائشة في الصحيحين لما ترك النبي صلى الله عليه وسلم تغيير الكعبة على قواعد إبراهيم خشية حصول مفسدة أعظم.
قال في ذلك العيني رحمه الله في عمدة القاري 2/204: “قال النووي: فيه أنه إذا تعارضت مصلحة ومفسدة وتعذر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة بدء بالأهم لأن النبي أخبر أن رد الكعبة إلى قواعد إبراهيم عليه السلام مصلحة ولكن يعارضه مفسدة أعظم منه وهي خوف فتنة بعض من أسلم قريبا..”
ثانيا: تقديم الأصل على الفرع
في حديث بعثة معاذ رضي الله عنه إلى اليمن وقوله عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: “إنك ستأتي قوما أهل كتاب، فإذا جئتهم فكن أول ما تدعوهم إليه: أن يشهدوا ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله..”.
قال الحافظ في الفتح 3/358: “ووقعت البداءة بهما (أي بالشهادتين) لأنهما أصل الدين الذي لا يصح شيء غيرهما إلا بهما”.
وذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتاب التوحيد عند ذكر فوائد هذا الحديث: “الفائدة الثانية عشرة: البداءة بالأهم فالأهم”.
ثالثا: تقديم الفرض العيني على الكفائي
ففي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: “جاء رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام فاستأذنه في الجهاد فقال له: أحيٌّ والداك، قال نعم، قال: ففيهما فجاهد”.
قال الحافظ في الفتح 6/140: “فدُل على ما هو أفضل منه في حقه”.
المفاسد المترتبة عن غياب فقه الأولويات
غياب فقه الأولويات باب من أبواب الانحراف والاضطراب المؤدي إلى مفاسد عظيمة على مستوى الأفراد والجماعات وجملة ذلك:
أولا: سوء فهم الشريعة حيث تُنزل الأمور في غير مواضعها.
قال الإمام أبو عبيدة رحمه الله: “من شغل نفسه بغير المهم أضرَّ بالمهم” الجامع لأخلاق الراوي للخطيب.
ثانيا: ضياع الأجر، بحيث الجاهل بمراتب الأعمال يهتم -مثلا- بالمستحبات على حساب المفروضات فيضيع عليه الأجر الكثير.
في الفتح 11/343: “قال بعض الأكابر: من شغله الفرض عن النّفل فهو معذور، ومن شغله النفل عن الفرض فهو مغرور”
ثالثا: الاضطرابات في الأعمال
فلا شك أن تقديم المهم على الأهم.. يستدعي هذا الاضطراب الذي يثمر ضعف الأعمال وتشتيت الجهود وإهدار الطاقات والأوقات.
قال أبو حامد الغزالي رحمه الله: “وترك الترتيب بين الخيرات من جملة الشرور” الإحياء 3/403.
وفي الختام، ننبه إلى أن الأخذ بفقه الأولويات لا يعني الاستهانة بالأمور الجزئية والسنة النبوية بحال من الأحوال، ولا ترك العمل بها في حالة الاختيار وعدم التزاحم، فهذا عمر رضي الله عنه كان ينتظر أخبار فتوح الشام، فقدم عليه عقبة بن عامر الجهني يبشره بفتح الشام وعليه خفان غليظان فنظر إليهما عمر فقال له: كم لك منذ لم تنزعهما؟ فقال عقبة: لبستهما يوم الجمعة واليوم يوم الجمعة ثمان، فقال: أصبت السنة. أخرجه البيهقي في السنن الكبرى والطحاوي في شرح معاني الآثار وصححه ابن تيمية في الفتاوي 21/178.