إحسان الظن وحمل الكلام على المحمل الحسن ما دام يحتمل ذلك

إن من القواعد المهمة، والآداب الراقية التي ينبغي أن يتحلى بها المسلم عندما يتعامل مع أخطاء إخوانه المسلمين حسن الظن بهم، وحمل أمرهم على السلامة والستر ما لم يأته ما يغلبه، وذلك قبل الحكم عليهم بالخطأ، وذلك لما يلي:

1- أن هذا المنهج هو الذي توافرت على تقريره النصوص الشرعية
قال تعالى : {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ ٱلظَّنِّ إِثْمٌ} .
وقال تعالى: {لَّوْلاۤ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُواْ هَـٰذَآ إِفْكٌ مُّبِينٌ} .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث” .
وقال : “يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته،ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف راحلته” .
وقد حث الصحابة والتابعون الأمة على اتباع هذا المنهج . فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: “ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا شراً، وأنت تجد لها في الخير محملاً” .
وعن سعيد بن المسيب قال: “كتب إلي بعض إخواني من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم “أن ضع أمر أخيك على أحسنه ما لم يأتيك ما يغلبك، ولا تظنن بكلمة خرجت من امرئ مسلم شراً وأنت تجد لها في الخير محملاً..” .
وقال أبو قلابة الجرمي: “إذا بلغك عن أخيك شيئ تكرهه فالتمس له عذراً جهدك، فإن لم تجد له عذراً فقل: لعل لأخي عذراً لا أعلمه” .
وبسلوك هذا المنهج وصلوا رحمهم الله إلى سلامة الصدر -التي عزَّ وجودها- والتي كانت منقبة عندهم يمدحون من اتصف بها، ويحمدون الله تعالى على بلوغها.
فهذا زيد بن أسلم يحدثنا عن أبي دجانة رضي الله عنه أنه دخل عليه مرة وهو مريض وكان وجهه يتهلل، فقيل له: ما لوجهك يتهلل؟ فقال: ما من عمل شيء أوثق عندي من اثنتين: كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، والأخرى فكان قلبي للمسلمين سليماً” .
وقال إياس بن معاوية: “كان أفضلهم عندهم أسلمهم صدراً وأقلهم غيبة” .
وقال الفضيل بن عياض: “لم يدرك عندنا من أدرك بكثرة صلاة ولا صيام، وإنما أدرك بسخاء النفس وسلامة الصدر والنصح للأمة” .
فهل يظن منصف بعد تلك النقول المشرفة أن الدعوة إلى إحسان الظن منهج مخترع لم يسبق إليه؟!

2- إن هذا المنهج هو الذي سار عليه السلف وامتثلوه في حياتهم العملية راسمين لنا صوراً مشرقة في التعامل مع الآخرين، فمن ذلك:
أن الربيع بن سليمان أحد تلاميذ الإمام الشافعي دخل على الشافعي ذات يوم يعوده من مرض ألم به فقال له: “قوَّى الله ضعفك، فقال الشافعي: لو قوَّى ضعفي لقتلني، فقال الربيع: والله ما أردت إلا الخير، فقال الشافعي: أعلم أنك لو شتمتني لم ترد إلا الخير..” .
وهذا أبو إسحاق الشيرازي نزع عمامته ذات مرة وكانت بعشرين ديناراً، وتوضأ في دجلة، فجاء لص فأخذها وترك عمامة رديئة بدلها، فطلع الشيخ فلبسها وما شعر حتى سألوه وهو يدرس فقال: لعل الذي أخذها محتاج .
وقرأ عثمان بن أبي شيبة: جعل السفينة في رحل أخيه فقيل له: إنما هو السقاية فقال: أنا وأخي أبو بكر لا نقرأ لعاصم. علق الإمام الذهبي على ذلك بقوله: فكأنه كان صاحب دعابة، ولعله تاب وأناب .
وهكذا ينبغي أن يكون النظر لأهل الفضل والخير، وهذا من فقه المقاصد والنيات الذي يجهله كثير من الناس عندما يحكمون على الآخرين بالنظر إلى الخطأ مجرداً عن حال الشخص ونيته ومقصده، فربما تكون زلة لسان ولا يقصد المعنى الخبيث، كما بين ذلك ابن القيم رحمه الله حيث يقول: “والكلمة الواحدة يقولها اثنان يريد بها أحدهما أعظم الباطل، ويريد بها الآخر محض الحق، والاعتبار بطريقة القائل وسيرته ومذهبه وما يدعو إليه ويناظر عنه” .
ولهذا لم يحكم بالكفر على الذي أخطأ من شدة الفرح فقال: “اللهم أنت عبدي وأنا ربك”؛ لأنه لم يقصد تأليه نفسه.
ومن تلك الأمثلة الرائعة أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عندما حكى مقالة الجنيد “التوحيد إفراد القدم من الحدث” قال شيخ الإسلام: “قلت: هذا الكلام فيه إجمال، والمحق يحمله محملاً حسناً، وغير المحق يدخل في أشياء..”، وأما الجنيد فمقصوده التوحيد الذي يشير إليه المشايخ، وهو التوحيد في القصد والإرادة، وما يدخل في ذلك من الإخلاص والتوكل والمحبة، وهو أن يفرد الحق سبحانه -وهو القديم- بهذا كله فلا يشركه في ذلك محدث” .
فانظر -رحمك الله- إلى هذا العدل والإنصاف الذي سار عليه هؤلاء الأعلام، وكيف حملوا العبارات المحتملة على المحامل الحسنة، مع إمكانهم أن يحملوها على المحمل الآخر، لكن سلامة الصدر وسخاء النفس والنصح للأمة تأبى عليهم ذلك، فليت من يتصيدون الأخطاء، ويفرحون بالعثرات ويعاملون العلماء الدعاة بسوء الظن يفقهون هذا المنهج.
ورحم الله القلاعي إذ يقول: “فقد يوحش اللفظ وكله ود، ويكره الشيء وليس من فعله بد، هذه العرب تقول: لا أبا لك في الأمر إذا هم، وقاتله الله ولا يريدون الذم، وويل أمه للأمر إذا تم، ومن الدعاء: تربت يمينك، ولذوي الألباب أن ينظروا في القول إلى قائله، فإن كان ولياً فهو الولاء وإن خشن، وإن كان عدواً فهو البلاء وإن حسن” . (عن كتاب: فقه التعامل مع الأخطاء على ضوء منهج السلف، د.عبد الرحمن المدخلي).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *