لا يشك من شم رائحة العلم, ونظر في نصوص القرآن والسنة وعلم حقيقة مذهب الصحابة رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان أن “مذهب السلف هو المذهب المنصور والحق الثابت المأثور, وأهله هم الفرقة الناحية, والطائفة المرحومة التي بكل خير فائزة, ولكل مكرمة راجية” لوامع الأنوار 20 مختصره.
والسلف في اللغة: يقال “سلف الإنسان من تقدمه بالموت من آبائه وذوي قرابته, ولهذا سمي الصدر الأول من التابعين السلف الصالح” النهاية 2/390.
أما في الاصطلاح فقد تباينت أقوال أهل العلم في ذلك على عدة اقوال اظهرها أن السلف هم الصحابة والتابعون وتابعوا التابعين. انظر درء التعارض 7/134, لوامع الأنوار 1/20, والتحف في مذاهب السلف 7-8.
قال الموساوي رحمه الله:
ثلاثة من القرون سلف *** وخامس بلا خلاف خلف
ورابع القرون فيه اختلفا *** هل سلف أو خلف من سلفا
“الصوارم والأسنة 8/2”
مع أن لفظة السلف قد تطلق في سياقات خاصة, أو لاعتبارات معينة على الصحابة فقط أو على من جاء بعد تابعي التابعين فحسب..
كما ننبه على أن السبق الزمني وحده غير كاف لتحديد مفهوم منهج السلف حتى ينضاف إلى ذلك موافقة الكتاب والسنة وما كان عليه الصحابة الكرام, وأعيان التابعين لهم بإحسان, ومن تبعهم من أئمة الدين ممن تلقى الناس كلامه دون من رمي ببدعة أو اشتهر بلقب غير مرض. انظر لوامع الأنوار 1/20.
وعليه فإن منهج السلف الصالح هو المنهج القويم والطريق الواضح المبين مما يرفض معه المرء عن رضى وقناعة ما هو مسطور في كتب المتأخرين من أن مذهب السلف أسلم, ومذهب الخلف أحكم وأعلم! وهي مقولة مجانبة للصواب وقائلها إما أنه تشبع بما لم يعط, أو أنه جاهل بما عليه السلف الصالح من أدلة تورث الطمأنينة واليقين.
قال الشوكاني رحمه الله: “فهم (أهل الكلام) متفقون فيما بينهم على أن طريق السلف أسلم, ولكن زعموا أن طريق الخلف أعلم, فكان غاية ما ظفروا به من هذه الأعلمية لطريق الخلف أن تمنى محققوهم وأذكياؤهم في آخر أمرهم دين العجائز.. فإن هذا ينادي بأعلى صوت, ويدل بأوضح دلالة على أن هذه الأعلمية التي طلبوها: الجهل خير منها بكثير, فما ظنك بعلم يقر صاحبه على نفسه: أن الجهل خير منه, وينتهي عند البلوغ إلى غايته، والوصول إلى نهايته أن يكون جاهلا به عاطلا عنه، ففي هذا عبرة للمعتبرين وآية بينة للناظرين” التحف في مذاهب السلف 3-4.
قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: “إن السابقين عن علم وقفوا وبصر نافذ كفوا” فضل علم السلف على الخلف 91.
فكيف بعد هذا يوصف علم السلف بالسلامة فحسب! وهو قائم على الحجة واليقين, ويوصف مذهب الخلف بالإحكام والأعلمية, وهو قائم على الظن والتخمين, فإن طريق هؤلاء المتأخرين مظنون باتفاق فلا أحد منهم يقطع بالمعنى الذي صرفوا اللفظ إليه. أنظر الملل والنحل للشهرستاني 1/101.
ثم كيف نباين بين السلامة والأعلمية والإحكام؟! فإنه لا سبيل للسلامة إلا بالأمر القائم على كمال العلم وتمام الإحكام فتأمل.
قال السفاريني رحمه الله: “إنه من المحال أن يكون الخالفون أعلم من السالفين كما يقوله بعض من لا تحقيق لديه -ممن لا يقدر قدر السلف، ولا عرف الله تعالى ولا رسوله ولا المؤمنين به حق المعرفة المأمور بها- من أن طريق السلف أسلم, وطريقة الخلف أعلم وأحكم.
وهؤلاء إنما أوتوا من حيث ظنوا أن طريق السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه ذلك بمنزلة الأميين, وأن طريقة الخلف هي استخراج النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات فهذا الظن الفاسد أوجب تلك المقالة التي مضمونها نبذ الإسلام وراء الظهور, وقد كذبوا وأفكوا على طريقة السلف, وضلوا في تصويب طريقة الخلف فجمعوا بين باطلين: الجهل بطريقة السلف في الكذب عليهم, والجهل والضلال بتصويب طريقة غيرهم” لوامع الانوار 1/25.
وقد اغتر وفتن كثير من الناس بما عليه الخلف لكثرة كلامهم وجدالهم في مسائل الدين فظنوا أن من كان كذلك فهو أعلم ممن ليس كذلك, وهذا جهل محض.
“فليس العلم بكثرة الرواية ولا بكثرة المقال ولكنه نور يقذف في القلب يفهم به العبد الحبق ويميز به بينه وبين الباطل ويعبر عن ذلك بعبارات وجيزة محصلة للمقاصد” فضل علم الصلف على الخلف 94.
قال ابن رجب رحمه الله: “وقد ابتلينا بجهلة من الناس يعتقدون في بعض من توسع في القول من المتأخرين أنه أعلم ممن تقدم، فمنهم من يظن في شخص أنه أعلم من كل من تقدم من الصحابة ومن بعدهم لكثرة بيانه ومقاله, ومنهم من يقول هو أعلم من الفقهاء المشهورين المتبوعين, وهذا يلزم منه ما قبله لأن هؤلاء الفقهاء المشهورين المتبوعين أكثر قولا ممن كان قبلهم، فإذا كان من بعدهم أعلم منه لاتساع قوله كان أعلم ممن كان أقل منهم قولا بطريق الأولى.. وهذا تنقص عظيم بالسلف الصالح وإساءة ظن بهم، ونسبته لهم إلى الجهل وقصور العلم ولا حول ولا قوة إلا بالله, ولقد صدق ابن مسعود في قوله في الصحابة: (إنهم أبر الأمة قلوبا وأعمقها علوما, وأقلها تكلفا),…وفي هذا إشارة إلى أن من بعدهم أقل علوما وأكثر تكلفا” فضل علم الصلف على الخلف 97-98.
فمذهب السلف الصالح -بلا شك ولا ريب-: أسلم وأحكم وأعلم.