الاستدلال قبل الاعتقاد
لقد أرسل الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق فأرشد الحيران إلى طريق الجنان، وما ترك شيئا مما تحتاجه الأمة إلا وقد بينه لنا صلى الله عليه وسلم، ولهذا فأهل السداد لا يحدثون عقيدة ولا عملا ولا سلوكا ولا منهجا إلا إذا استقوه من نصوص القرآن والسنة، فالمنهج الحق منهج توقيفي قائم على التسليم لنصوص الوحي.
قال الله تعالى: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا) الإسراء 36.
وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) الحجرات 1.
قال الإمام الطبري: “يقول: لا تعجلوا بقضاء أمر في حروبكم أو دينكم، قبل أن يقضي الله لكم فيه ورسوله، فتقضوا بخلاف أمر الله وأمر رسوله..”.
عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ يُحَدِّثُ فِي كِنْدَةَ فَقَالَ يَجِيءُ دُخَانٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَأْخُذُ بِأَسْمَاعِ الْمُنَافِقِينَ وَأَبْصَارِهِمْ يَأْخُذُ الْمُؤْمِنَ كَهَيْئَةِ الزُّكَامِ فَفَزِعْنَا، فَأَتَيْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَغَضِبَ فَجَلَسَ، فَقَالَ: مَنْ عَلِمَ فَلْيَقُلْ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَقُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ، فَإِنَّ مِنْ الْعِلْمِ أَنْ يَقُولَ لِمَا لا يَعْلَمُ لا أَعْلَمُ، فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) متفق عليه.
ورحم الله الربيع بن خُثَيْم حيث قال: يا عبد الله! ما علَّمَك الله في كتابه من علم؛ فاحمد الله، وما استأثر عليك به من علم فكِله إلى عالمه، لا تتكلف، فإن الله يقول لنبيه: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) ص 86
أما المخالفون لمنهج السلف والمناوئون له فقد ابتدعوا أصولا وقواعد وأراء فاسدة لم يدلهم عليها القرآن ولا السنة، وإنما الجهل واتباع الهوى وتحكيم العقل والذوق.. اعتقدوها وتبنوها ودعوا الناس إليها، وربما عقدوا عليها الولاء والبراء.. فلما بحثوا وجدوا أدلة الشرع تناقضها وتخالفها، فيصرون على البقاء عليها وتقريرها، وإذا سُئلوا عن أدلتها من نصوص الوحي راحوا يقلبون هنا وهناك لعلهم يجدون ما يُسعفهم في إضفاء الشرعية على بدعهم بالاستدلال بكل شيء فيه متعلق ولو بعيد.. فالظني حينها يصير قطعيا، والضعيف قويا، والسقيم صحيحا، والمتشابه محكما، والشاذ محفوظا.. ناهيك عن لي أعناق النصوص وتحريف معناها، فالمهم عند هؤلاء هو أن تسلم لهم أصولهم وبدعهم، وهذه ثمرة الاعتقاد قبل الاستدلال.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض حديثه عن الاختلاف: “وأكثر ما يكون ذلك لوقوع المنازعة في الشيء قبل إحكامه وجمع حواشيه وأطرافه، ولهذا قال ما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه” .
ولقد بين شيخ الإسلام رحمه الله أن هذا المنهج هو منهج عامة أهل التفرق والاختلاف من المخالفين لأهل السنة والجماعة والمجانبين لمنهج السلف فقال: “والمقصود هنا أن السلف كان اعتصامهم بالقرآن والإيمان، فلما حدث في الأمة ما حدث من التفرق والاختلاف صار أهل التفرق والاختلاف شيعا، صار هؤلاء عمدتهم في الباطن ليست على القرآن والإيمان، ولكن على أصول ابتدعها شيوخهم، عليها يعتمدون في التوحيد والصفات والقدر والإيمان بالرسول وغير ذلك ثم ما ظنوا أنه يوافقها من القرآن احتجوا به وما خالفها تأولوه، فلهذا تجدهم إذا احتجوا بالقرآن والحديث لم يعتنوا بتحرير دلالتهما، ولم يستقصوا ما في القرآن من ذلك المعنى، إذ كان اعتمادهم في نفس الأمر على غير ذلك، والآيات التي تخالفهم يشرعون في تأويلها شروع من قصد ردها كيف أمكن، ليس مقصوده أن يفهم مراد الرسول بل أن يدفع منازِعَهُ عن الاحتجاج بها” .